اللغات الاصلية والتنوع البيولوجي: حوار الانسان مع الكائنات

محمد التفراوتي28 أكتوبر 2025آخر تحديث :
اللغات الاصلية والتنوع البيولوجي: حوار الانسان مع الكائنات

آفاق بيئية: حصاد أبوظبي_ النقراوي مولاي المصطفى*

اجتمعت أصوات العالم في مؤتمر الاتحاد الدولي لصون الطبيعة بأبوظبي 2025، ارتفع صفير خافت فوق الضجيج ، تذكير بأن لغات الطبيعة ما تزال تنطق، إن أصغينا اليها.

بالصدفة وحدها، التقط سمعي صفيرا غريبا وسط صخب الاجنحة الدولية في المعرض العالمي لصون الطبيعة. كان الصوت مختلفا عن الضجيج المعتاد في الفعاليات الكبرى؛ لحنا يتردد كان الرياح نفسها تنطق. تبعت الصوت حتى وصلت الى ركن صغير يحمل عنوانا لافتا: «التصفير، لغة الطبيعة».
هناك، كان عدد من المشاركين من جزر الكناري والمكسيك والمغرب يتبادلون رسائل قصيرة بلغة الصفير، في مشهد يعيدنا الى أزمنة كان فيها الانسان جزءا من النسيج الطبيعي، لا نقيضا له.

كانت الاصوات تتقاطع في الهواء مثل أسراب طيور تتحاور عبر الوهاد. في تلك اللحظة أدركت أن اللغة، قبل أن تكون نظاما من الكلمات، هي شكل من أشكال الحياة، وأن الصفير ليس مجرد وسيلة تواصل بشرية، بل استمرار لصوت الطبيعة فينا.

اللغات الأصلية… ذاكرة الطبيعة في الانسان

اللغات الاصلية تعد اليوم من أكثر عناصر التراث الانساني ارتباطا بالبيئة. فهي لا تنقل المعاني فحسب، بل تختزن في مفرداتها معارف دقيقة عن النباتات، والمياه، والمواسم، وانماط العيش.
في اللغة الامازيغية مثلا، نجد أسماء متخصصة للرياح حسب شدتها واتجاهها، وللامطار حسب توقيتها في السنة، وللنباتات حسب خصائصها العلاجية او الزراعية. هذه المفردات ليست مجرد كلمات، بل خريطة بيئية متوارثة تحفظ علاقة الانسان بمحيطه عبر القرون.
ويؤكد اللغويون والانثروبولوجيون أن لكل لغة محلية منظورا خاصا للعالم الطبيعي. فهي تشكل عدسة يرى من خلالها الانسان بيئته ويتفاعل معها. وعندما تموت لغة، يختفي معها نظام معرفي متكامل يحتوي على خبرات الزراعة التقليدية، والطب الشعبي، وادارة الموارد المائية، والتكيف مع التغيرات المناخية.
إن إنقراض لغة ما يشبه انقراض نوع بيولوجي؛ فكلاهما يخل بتوازن الحياة على الارض.

التصفير… حين يتحدث الانسان بلسان الطير

من بين اعجب اللغات التي عرفها البشر لغات التصفير، التي تطورت في البيئات الجبلية والغابية، حيث يصعب التواصل بالصوت العادي.
في جزر الكناري، تطورت لغة سيلبو غوميرو (Silbo Gomero) لتمكن القرويين من تبادل الرسائل عبر الوديان. وفي الاطلس المغربي، ما تزال بعض القرى تحتفظ بطريقة مشابهة تستخدم لايصال النداءات عبر المسافات الطويلة.
هذه اللغات الصافرة ليست فنا صوتيا فحسب، بل تعبير عن تكيف الانسان مع بيئته، وقدرته على تحويل اصوات الطبيعة الى ادوات تواصل اجتماعي، تماما كما تفعل الطيور حين تحدد مواقعها او تبعث اشاراتها في الجو.
انها لغات ولدت من الصمت والهواء، واحتفظت بذكاء الطبيعة في بنيتها الصوتية.

من البحث العلمي الى الاعتراف العالمي

في العقود الممتدة بين 1960 و1980، كشفت الابحاث العلمية عن وجود انظمة تواصل صفيري في مناطق متعددة من العالم.
فقد وجدت لغات مشابهة لـ Silbo Gomero في فرنسا (قرية Aas في جبال البيرينيه)، وتركيا (قرى منطقة Kuşköy)، واليونان (قرية Antia بجزيرة Eubee)، والمكسيك والصين وماليزيا وغويانا الفرنسية.
وقد شكلت دراسات Busnel (1964–1976) وClasse (1956–1957) وMeyer (2005) وMorera (2007) الاساس العلمي لتوصيف هذه اللغات في ضوء علم الصوتيات والانثروبولوجيا اللغوية.
وفي عام 2009، تم تسجيل لغة Silbo Gomero في قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية لدى اليونسكو، تقديرا لقيمتها الاثنولوجية واللغوية الفريدة.
ومنذ ذلك الحين، اصبحت تدرس كلغة كاملة في المدارس الابتدائية والثانوية في جزيرة La Gomera وفق مناهج تربوية خاصة، في خطوة تمثل نموذجا يحتذى عالميا في ربط التعليم بالتراث الطبيعي.
هذه التجارب البحثية والتعليمية تظهر ان لغات الصفير ليست بقايا من الماضي، بل جسور معرفية تربط الانسان بصوت الطبيعة، وأن الحفاظ عليها هو شكل من اشكال حماية التنوع الحيوي الثقافي.

اللغة ككائن حي مهدد بالانقراض

تقدر اليونسكو ان اكثر من 40% من لغات العالم مهددة بالاندثار خلال العقود القادمة.
اللغة كالكائن الحي، تولد وتنمو وتتكيف مع بيئتها، واذا انفصلت عن جذورها الاجتماعية والثقافية تبدأ بالذبول حتى تختفي.
انقراض لغة ما يشبه اختفاء نوع بيولوجي: يحدث خللا في التوازن الثقافي والبيئي، ويقلص من قدرة الانسانية على فهم تنوعها الطبيعي.
فاللغة ليست اداة تواصل فقط، بل كائن بيئي حي يحمل ذاكرة الطبيعة في الانسان.

إحياء اللغات الاصلية… إحياء للحياة

اليوم، تتنامى الجهود لادماج اللغات الاصلية في السياسات البيئية والتعليمية.
في المغرب مثلا، يشكل تعميم اللغة الامازيغية خطوة اساسية نحو استعادة ذاكرة بيئية ثرية، تختزن مفاهيم دقيقة حول الارض والماء والنبات.
واشراك المجتمعات الناطقة باللغات المحلية في برامج الحفاظ على التنوع البيولوجي يمنح هذه الجهود بعدا ثقافيا وانسانيا، يضمن استدامتها.
احياء لغة مهددة لا يعني فقط حفظ كلمات من النسيان، بل احياء نمط حياة متوازن مع الطبيعة.
فاللغة هي الحارس الاول لذاكرة الاجداد، والمفتاح الذي يعيدنا الى الحكمة البيئية التي ضيعتها الحداثة.

الصفير الاخير… ام النداء الاول

حين غادرت المعرض، ظل الصفير يتردد في ذاكرتي كصوت قادم من زمن اخر.
تساءلت: هل هو الصفير الاخير الذي نسمعه من لغات الطبيعة، ام النداء الاول لوعي جديد يدعونا الى الاصغاء من جديد؟
في النهاية، قد تكون حماية اللغات الاصلية فعلا بيئيا بامتياز، يعيد الى الانسان مكانته ضمن المنظومة الكونية التي نسي انه جزء منها.
فكل لغة تنقذ، وكل صوت يستعاد، هو خطوة نحو استعادة الحوار مع الارض والكائنات التي تصفر بلغتها منذ الازل.

* النقراوي مولاي المصطفى ممثل الائتلاف المدني املن، عضو مؤتمر الطبيعة العالمي (UICN 2025)

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!