آفاق بيئية: محمد التفراوتي
في خضم التحديات البيئية المتنامية التي تواجهها البشرية، برزت محميات المحيط الحيوي كإحدى الآليات العالمية المبتكرة للموازنة بين صون التنوع البيولوجي وتحقيق التنمية المستدامة. ومع ذلك، فإن تفعيل هذه الآلية على الأرض يصطدم أحيانا بعقبات اجتماعية ومؤسساتية، تتجلى أبرزها في الانتشار الواسع للمعلومات المضللة التي تغذي الرفض المجتمعي، وتربك عملية صنع القرار، كما هو الشأن في حالة منتزه الأطلس الصغير وسط المغرب، الذي كان من المنتظر أن يعزز منظومة المحميات البيئية بالمملكة، غير أن إقراره تم تأجيله، لا لعيب فيه، بل بسبب “منطق التراجع”، كما عبرت في رسالة مفتوحة وجهتها إلى رئيس الحكومة.
أولا: عندما تشوه النوايا البيئية
يهدف مشروع منتزه الأطلس الصغير إلى حماية موروث بيولوجي فريد من نوعه، واحتضان نظم بيئية جبلية وهشة، تعد ملاذا حيويا لأنواع نباتية وحيوانية مهددة. ومع ذلك، وجد المشروع نفسه في قلب جدل محلي، استثمر فيه الخوف والتوجس لخلق خطاب رفض مجتمعي. فقد جرى الترويج بأن المنتزه سيمنع الرعي، ويقيد النشاط الفلاحي، وسيؤدي إلى مصادرة الأراضي، وغيرها من الإشاعات التي لا تستند إلى أي سند قانوني أو واقعي.
والواقع أن هذا التضليل يجد أرضا خصبة في غياب تواصل مؤسساتي فعال، وافتقار المواطنين للمعلومة العلمية الدقيقة بلغة مبسطة وسهلة الفهم. وهنا تكمن المعضلة: ما لا نفهمه، نخشاه. ( من جهل شيئا عاداه)
ثانيا: من رفض الساكنة إلى تراجع القرار السياسي
لم تكن ردود فعل الساكنة مجرد احتجاجات عابرة، بل تحولت إلى موقف مجتمعي مؤطر بخطاب جماعي يرفض المشروع برمته. وتحت ضغط هذا الرفض، فضلت الجهات الوصية تأجيل قرار اعتماد المنتزه، رغم استكمال كل الشروط العلمية والتقنية والمؤسساتية اللازمة.
هذا التراجع، في حد ذاته، يعكس منطقا مقلقا في تدبير السياسات البيئية. إذ بدل مواجهة التضليل بالمعلومة، والحوار بالشراكة، والشك بالتمكين المعرفي، تم اختيار مسلك الإرجاء والصمت، بما يحيلنا على ثقافة سياسية تخشى “اللا شعبية”، حتى عندما يتعلق الأمر بمشاريع ذات أهمية وطنية ودولية.
وقد عبرت عن ذلك صراحة في رسالتي المفتوحة المعنونة: “المشكل ماشي في المنتزه، بل في منطق التراجع”، حيث نبهت إلى أن التردد في اتخاذ القرار هو الخطر الحقيقي، لا المشروع البيئي نفسه. فأن نضحي بمنجز استراتيجي خشية اللغط، هو في الواقع تكريس للفراغ، واستقالة من دور القيادة.
ثالثا: الإعلام البيئي بين الغياب والتواطؤ غير المقصود
جزء كبير من هذه الإشكالية يعود إلى غياب الإعلام البيئي القادر على تبسيط الرهانات العلمية، والتصدي للمغالطات المنتشرة، وشرح أبعاد المنتزه في إطار شمولي يربط بين حماية الموارد الطبيعية وتحقيق العدالة البيئية والاجتماعية.
وفي ظل هذا الغياب، يتحول الإعلام المحلي، وأحيانا النشطاء الرقميون، إلى منابر تروج للخطاب الانطباعي، لا النقدي، وللخوف من المستقبل، لا استشرافه. وهكذا يصاغ الرأي العام على أسس هشة، تؤدي في نهاية المطاف إلى تعطيل المبادرات التنموية الحقيقية.
رابعا: الحاجة إلى استراتيجية متكاملة لمحاربة التضليل البيئي
ما وقع في الأطلس الصغير ليس حادثا معزولا، بل مرآة لنمط متكرر في علاقة المؤسسات البيئية بالمجتمع. لذلك، فالتصدي للمعلومات المضللة لا يكون بالسكوت، بل عبر تواصل بيئي استباقي، قائم على اللقاءات الميدانية والإعلام المحلي ومرافقة المشاريع بحملات توعية قبل إطلاقها. ثم تكوين وسطاء محليين من جمعيات، فاعلين تربويين، ومؤثرين ثقافيين، لتفسير أهداف المحميات بلغة الناس وواقعهم. و دمقرطة المعطيات البيئية، عبر توفير الخرائط والوثائق والرؤى باللغة المحلية وبأسلوب بصري ومبسط. و إشراك حقيقي للساكنة في كل مراحل اتخاذ القرار، منذ التشخيص إلى التقييم، لتفادي مفاجأتهم بقرارات جاهزة. و تقوية الإعلام البيئي الجهوي، ليكون قوة توازن معرفية أمام تيارات التضليل.
خامسا: نحو منطق جديد لصنع القرار البيئي
إن رهان المحميات، بما فيها الأطلس الصغير، لا يخص البيئة فقط، بل يهم الأمن الإيكولوجي والاجتماعي والثقافي. وبالتالي، فإن أي تراجع أمام حملات مغلوطة هو خسارة مضاعفة: للبيئة، وللساكنة، وللمؤسسات.
المطلوب اليوم ليس فقط إعادة إطلاق مشروع الأطلس الصغير، بل مراجعته بمنهج جديد، يقوم على بناء الثقة، لا على تمرير القرار، وعلى الحوار لا التحفظ، وعلى العلم لا التقدير الشخصي.
حين يصبح التضليل البيئي أداة فعالة لتعطيل المشاريع الاستراتيجية، علينا أن نقر بأن معركتنا ليست مع المنتزه، بل مع تمثلاتنا حوله. وأن الإشكال الحقيقي ليس في الورق الذي يحمل المشروع، بل في منطق التراجع أمام الجهل، والخوف من النقاش، والركون إلى الانتظار.
مشروع محمية الأطلس الصغير سيبقى ملفا مفتوحا، لكنه يحمل في طياته دروسا أعمق من الجغرافيا، أهمها أن محميات المحيط الحيوي لا يمكن أن تبنى فقط بخرائط بيئية، بل بثقافة تشاركية واعية، تقاوم التزييف، وتستبطن قيم الاستدامة والعدالة البيئية.