آفاق بيئية : جوليو بوكالتي *
تعيش أجزاء كبيرة من العالم في حالة من التوتر فهناك علاقة الغرب بروسيا ومستقبل الناتو والحرب الأهلية السورية واللاجئين وتصاعد الشعبوية اليمينية وتأثير الأتمتة والخروج البريطاني القريب من الإتحاد الأوروبي. إن جميع تلك القضايا –وغيرها –قد أثرت سلبا على الجدل العام في العالم ولكن هناك قضية تعتبر أهم من كل تلك القضايا تتعرض للتجاهل أو التهميش وهي قضية البيئة.
لقد حصل ذلك خلال الإجتماع السنوي للمنتدى الإقتصادي العالمي في دافوس في سويسرا فما عدا الإشارة إلى إتفاقية باريس للمناخ من قبل الرئيس الصيني شي جينبينج فإن مواضيع مثل التغير المناخي والتنمية المستدامة لم يتم التطرق اليها في النقاشات الرئيسية وعوضا عن ذلك تم مناقشة تلك المواضيع في الإجتماعات الجانبية والتي كانت نادرا ما تتقاطع مع القضايا السياسية والإقتصادية الحالية.
إن السماح بتجاهل القضايا البيئية في مثل هذا الوقت الذي يتميز بإنعدام الإستقرار الجيوسياسي والإجتماعي هو خطأ وليس فقط لإن هذا يحدث في لحظة حاسمة في المعركة من أجل إدارة التغير المناخي. إن التدهور البيئي وتناقص الموارد الطبيعية تقوض القدرة على التعامل مع بعض من أكبر القضايا العالمية التي نواجهها.
إن إنعدام الأمن البيئي هو مساهم رئيسي في إنعدام الإستقرار العالمي على الرغم أنه في كثير من الأحيان يتم التقليل من شأنه. إن مفوضية الأمم المتحدة العليا للاجئين أصدرت تقريرا تقول فيه أن الكوارث الطبيعية شردت أكثر من 26 مليون شخص بالسنة منذ 2008-تقريبا ثلث إجمالي المهجرين قسرا في الفترة نفسها .
وحتى أزمة اللاجئين الحالية لديها بعد بيئي ففي السنوات التي سبقت الحرب شهدت سوريا أسوأ جفاف في تاريخها المسجل . إن هذا الجفاف مع الممارسات الزراعية غير المستدامة والإدارة السيئة للموارد ساهمت في النزوح الداخلي لمليون ونصف سوري مما أدى إلى تحفيز الإضطرابات السياسية قبل إنتفاضة سنة 2011 .
إن الرابط بين الضغوط البيئية والزراعية لا تقتصر على سوريا فالإعتماد المفرط على مناطق جغرافية محددة للزراعة يعني أن إنتاج الغذاء يمكن أن يعمل على تفاقم المشاكل البيئية أو حتى خلق مشاكل جديدة وهذا سيجعل مصالح المستهلكين العالمية في مواجهة مصالح المواطنين المحليين كما كان عليه الحال منذ فترة طويلة على طول نهر المسسيبي حيث أن إستخدام بعض الأسمدة أدى إلى عدم قدرة التربة على إمتصاص المياه في منطقة تعتبر سلة غذائية للعالم وهذا يساهم في زيادة المخاوف المتعلقة بنوعية المياه.
إن الرابط يسير في الإتجاه المعاكس كذلك فالظروف البيئية تؤثر على الإنتاج الزراعي أيضا وهذا بدوره يؤثر على أسعار المنتجات الزراعية والتي تمثل حوالي 10% من المنتجات التي يتم الإتجار بها عالميا فعلى سبيل المثال إرتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط هطول الأمطار تساهم في رفع أسعار القهوة . إن التوقعات بإنكماش الأراضي في العالم المناسبة لزراعة القهوة بمقدار النصف بحلول سنة 2050 يعني أن الأسعار مرشحة للزيادة.
إن التحول المفاجىء تجاه الحمائية التجارية قد يؤدي إلى مزيد من الإرتفاعات في أسعار المنتجات الزراعية ومثل هذا الزيادة ستؤثر على دخل الأسر التي تشتغل في الزراعة مما سيفيد بعض المزارعين ويلحق الضرر بمزارعين آخرين كما سيعاني المستهلكين وخاصة الفقراء والضعفاء منهم .
إن من الأسباب الأخرى لماذا يجب أن تكون البيئة في قلب المناقشات الإقتصادية هو دورها كأكبر مصدر للتوظيف على مستوى العالم فحوالي مليار إنسان أي 20% تقريبا من العمالة في العالم يعملون بشكل رسمي في الزراعة وهناك مليار إنسان آخر تقريبا ينخرطون في زراعة الكفاف وعليه فهم غير مسجلين في إحصائيات الأجور الرسمية.
إن أي مبادرات لدعم التنمية الإقتصادية يجب أن تدعم إنتقال الناس تجاه نشاطات أكثر إنتاجية وهذا مهم على وجه الخصوص في وقت تهدد فيه التكنولوجيا التي تزداد تعقيدا وتكاملا بإن تتجاوز جيلا بإكمله من العمال في بعض البلدان فالجهود من إجل إفادة هذا العدد الضخم من الناس يجب أن لا تركز على التدريب والتعليم فحسب بل أيضا على نماذج جديدة تسمح للبلدان بالإستفادة من رأسمالها الطبيعي – الأراضي وتجمعات المياه والبحار – بدون إستنفاذها.
ونظرا لإن تناقص الموارد الطبيعية يمكن أن يتسبب في التشرد والضعف فإن الإدارة الفعالة للموارد الطبيعية يمكن أن تدعم حل النزاعات والتنمية الإقتصادية المستدامة وبهذا الجانب فإن الجهود لتحقيق المعالجة البيئية من أجل تعزيز صلابة ومرونة المجتمعات الريفية والإنتاج الزراعي المستدام ودعم الإشراف البيئي المجتمعي قد أظهرت نتائج واعدة.
دعونا ننظر إلى نورثرن رانجلاند ترست وهي منظمة تركز على إنشاء محميات مجتمعية من أجل دعم إستخدام الأراضي في كينيا بشكل مستدام وعادل . لقد ساعدت نورثرن رانجلاند ترست المجتمعات الرعوية على إنشاء آليات إدارة فعالة للبيئة التي تعتمد عليها مما يقلص من النزاع على حقوق الرعي وخاصة في أوقات الجفاف.
بالنسبة للعديد من المجتمعات فإن علاقة الناس بالأرض التي يعيشون عليها هي جزء لا يتجزأ من هويتهم ومع الإدارة والتخطيط الفعال والحوار المنتفح وأطر تقاسم الموارد والإستثمار الكافي بما في ذلك في التدريب على المهارات فإن بإمكان تلك المجتمعات أن تترجم هذه العلاقة لإدارة بيئية فعالة وبناء مجتمعات أكثر صحة وأمنا.
إن الأزمات التي تعصف بالعالم المعاصر هي أزمات معقدة ولكن هناك أمر واحد واضح وهو أن البيئة مرتبطة بها جميعا والحلول لن تعني شيئا بدون عالم صحي نستطيع فيه تطبيق تلك الحلول.
جوليو بوكالتي *: رئيس الاستراتيجية بمنظمة صون الطبيعة (Nature Conservancy)
المصدر: بروجيكت سنديكت