سكولوس وكوستو… نداءان يلتقيان لحماية المتوسط
آفاق بيئية: محمد التفراوتي
هل يحتاج البحر المتوسط إلى مزيد من المؤتمرات؟ أم إلى مزيد من النقاشات الوطنية حول الإرادة السياسية و الشفافية الرقمية؟
بين اضطراب ما تحت أمواج المتوسط وتصاعد مؤشرات الإجهاد البيئي، تتواصل رحلة البحث عن توازن بين الاستغلال والحماية.
ورغم تزايد الوعي لدى العلماء والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، تبقى وتيرة التنفيذ بطيئة، تعرقلها المصالح التجارية والبيروقراطية وغياب الإرادة السياسية.
ومع اختتام الدورة الثامنة والأربعين لـ اللجنة العامة لمصايد أسماك البحر المتوسط (GFCM)، بدا واضحا أن حماية البحر مسألة ضمير وخيارات أخلاقية تجاه الأجيال المقبلة.
المنطقة في أزمة. المسافة حرجة بين العلم والسياسة، إذ يجسد البحر المتوسط فجوة متزايدة بين التوصيات العلمية وتطبيقها العملي.
فغياب البيانات الدقيقة والموثوقة يؤخر تطوير سياسات فعالة، بينما تبطئ الإجراءات الإدارية، المتأثرة بجماعات الضغط، عملية اتخاذ القرار.
وفي البحر، تبقى المراقبة ضعيفة، والالتزام بالقانون شبه معدوم. والجدير بالتذكير أن المياه الدولية تمثل أقل من 1 في المائة من مساحة المتوسط، وأن معظم أنشطة الصيد تتم داخل المناطق الاقتصادية الخالصة (EEZs)، التي تعتمد مراقبتها، كليا تقريبا، على السلطات الوطنية وتوفر البيانات الموثوقة.
وتستمر ممارسات الصيد غير القانوني، وإلقاء أصناف بحرية دون توثيق، وانتهاك مواسم الراحة البيولوجية، وصيد الأحجام الصغيرة، بينما تبقى الرقابة في الموانئ محدودة رغم التطور في تقنيات المراقبة.
لكن التحدي الأخطر يظل العجز عن تحويل الوعي العلمي إلى إرادة سياسية، خاصة أمام ما يواجهه الصيادون التقليديون من صعوبات، وضعف إدراك الرأي العام للمخاطر والحاجة إلى الإصلاح.
العدالة البيئية واختبار الحوكمة
تمتد قضايا المصايد في المتوسط إلى ما هو أبعد من الجانب البيئي، لتطال العدالة البيئية بين دول الشمال والجنوب، والشرق والغرب، بل وبين الأجيال أيضا.
فبينما تمتلك بعض الدول تقنيات مراقبة متقدمة، تفتقر دول أخرى إلى أبسط الأدوات التنظيمية. ويبقى الظلم الأكبر ذلك الواقع على الأجيال القادمة.بحر مستنزف من الأسماك، وتنوع بيولوجي مهدد، ونظام بيئي أضعفه الصيد الجائر وتغير المناخ والأنواع الغازية.
ورغم أن تقنيات التتبع الحديثة تمنح إمكانات غير مسبوقة للمراقبة والتحليل، فإن غياب الحوكمة الفعالة والإرادة الجماعية يبقي المتوسط عالقا بين الجمود المؤسسي و عدم الكفاءة الإدارية.

سكولوس: فجوة تتسع بين الوعي والفعل… و”أفدح مظلمة” بحق الأجيال المقبلة
يحذر البروفيسور مايكل سكولوس،(Michael J. Scoullos) الكيميائي البيئي ومدير مختبر الإيكولوجيا بجامعة أثينا، من اتساع الفجوة بين التقدم في فهم الأزمة البيئية في المتوسط وبين البطء الشديد في تنفيذ الحلول على الأرض.
ويقول: “إن الفجوة الواضحة بين ارتفاع مستوى الوعي لدى العلماء والمنظمات والجزء الكبير من الجمهور بالأزمة البيئية في المتوسط، وبين البطء الشديد في اعتماد الحكومات والمؤسسات الإقليمية والدولية للتوصيات العلمية، تعود إلى مجموعة من العوامل تختلف من بلد لآخر وفقا لأولويات قطاع الصيد ومستوى الوعي والقدرات لدى الأجهزة الوطنية والإقليمية.”
ويعتبر سكولوس أن غياب البيانات الموثوقة هو العائق الأول أمام الإصلاح، إذ تعاني معظم الملفات البيئية في المتوسط من نقص كبير في المعلومات.
وبالتالي تتأخر صياغة توصيات علمية قوية قادرة على توجيه السياسات العامة. وحتى عند صياغة هذه السياسات، فإن اعتمادها يتطلب مسارا.حكوميا.وبرلمانيا طويلا، يتأثر عادة بالمصالح الوطنية أو القطاعية وبنفوذ جماعات الضغط.
وعلى الأرض، يظل التنفيذ الحلقة الأضعف، خصوصا في البحر، حيث يصعب المراقبة والتفتيش حتى داخل المياه الوطنية، ويكاد ينعدم في المياه الدولية. وتبقى ممارسات مثل الصيد غير القانوني، والمعدات المحظورة، وانتهاك فترات المنع، وصيد الأنواع أو الأحجام الممنوعة، وغياب الرقابة الفعلية على التفريغ في الموانئ، شائعة رغم وجود تقنيات متقدمة.
ويضيف سكولوس أن غياب الإرادة السياسية القوية يلعب دورا حاسما في الإبقاء على الوضع القائم. فالأزمة التي يعيشها قطاع الصيد التقليدي وشبه الصناعي تجعل الحكومات مترددة في فرض إجراءات أكثر صرامة، بينما يظل الرأي العام غير مدرك بما يكفي لخطورة الوضع وللحاجة الملحة للتقليل من البصمة الثقيلة للصيد غير المستدام على المخزون البحري.
ويشدد على أن الوعي والحوار المجتمعي حول استدامة الموارد البحرية ما يزالان غير كافيين، وأن السياسات الوطنية والإقليمية يجب أن تكون أكثر انسجاما و أشد صرامة، مع توفير آليات رقابة حقيقية، وأنظمة مراقبة فعّالة، وتقييمات دقيقة للضغوط على المخزون البحري والأنواع والنظم البيئية، بما يشمل تأثيرات تغير المناخ والأنواع الغازية، وسبل التخفيف منها.
كما يسلط الضوء على تعقيدات العدالة البيئية في قطاع مصايد الأسماك، ويصفها بأنها واحدة من أكثر القضايا صعوبة في المتوسط، حيث تتقاطع الفوارق في القدرات التكنولوجية والسلطة السياسية بين الشمال والجنوب، وحتى داخل دول الجنوب نفسها، مع ممارسات تقليدية عريقة. ويمكن تحقيق تقدم كبير من خلال التطبيق السليم لقانون البحار، وتدريب حراس السواحل وإحاطتهم بالمعلومات.
لكن “أفدح مظلمة”، كما يقول، هي تلك الواقعة على الأجيال القادمة: “نحن نترك للأجيال المقبلة بحرا أفقر، وأقل تنوعا، وأكثر تدهورا، نتيجة للصيد الجائر في جيلنا والانتشار السريع للأنواع الغازية، التي فاقمها تغير المناخ الناتج عن انبعاثاتنا.”
ويختم بالتأكيد أن التقنيات الحديثة توفر قدرات غير مسبوقة على مراقبة آثار تغير المناخ والتلوث والأنواع الغازية، وتقييم مخزونات الأسماك، وتوجيه التحولات المطلوبة نحو مستقبل أكثر استدامة.
لكن كل ذلك مرهون بوجود حوكمة فعالة، ورغم وجود مؤشرات على التقدم، إلا أن هناك تهديدات جدية بتآكل آليات الحوكمة الدولية، مع ركود واضح أو حتى تراجع في قدرات المنظمات الدولية و الإقليمية و المتوسطية، مما قد يؤخر بشكل كبير تطوير الآليات التشغيلية القوية اللازمة لتنفيذ سياسات وتدابير قائمة على العلم، قادرة على تعزيز ممارسات الصيد المستدامة في البحر المتوسط وحمايتها. وقد يفرض الوعي العام والمشاركة الفعالة الضغط اللازم على صانعي القرار للتحرك سريعا بطريقة أكثر مسؤولية وفعالية. ويؤكد أن الوعي العام ومشاركة المواطنين يمكن أن يخلقا ضغطا حقيقيا على صناع القرار للتصرف بمسؤولية وفعالية، قبل فوات الأوان.

من صوت العلم إلى صدى الذاكرة: حفيدة كوستو تتحدث
مع اختتام الدورة الثامنة والأربعين، وجهت ألكسندرا كوستو، حفيدة رائد أعماق البحار الأسطوري “جاك إيف كوستو” (Jacques-Yves Cousteau)، رسالة رمزية من قلب البحر إلى حكومات تونس والمغرب ومصر.
كانت رسالتها، المتجذرة في إرث عائلي كرس حياته لحماية المحيطات، واضحة وصريحة: «اعتمدوا نظام الترقيم الدولي للمنظمة البحرية الدولية (IMO) لجميع سفن الصيد. فهو مجاني، وفعال، وخطوة أولى نحو الشفافية في البحر المتوسط.»
هذه دعوة و نداء أخلاقيا يعيد إلى الأذهان إرث “جاك كوستو”، الذي علم العالم أن الحماية تبدأ بالمعرفة، وأن الشفافية هي البوابة الأولى للحفاظ.
لكن لماذا هذه الدول تحديدا؟ لأن الأرقام تتحدث بوضوح:
في تونس، أقل من 40 في المائة من السفن المسجلة تحمل رقما دوليا من المنظمة البحرية (IMO)، ما يجعل جزءا كبيرا من الأسطول خارج نطاق التتبع، ويعقد مكافحة الصيد غير القانوني.
أما مصر وتونس والمغرب، فجميعها أعضاء في المنظمة، ولها صلاحية إصدار هذه الأرقام، لكن تطبيق النظام على سفن الصيد ما يزال محدودا وغير موحد.
ففي مصر، تمنح الأرقام الدولية أساسا للسفن التجارية الكبيرة، أما تلك التي يقل طولها عن 20 مترا فما تزال مستثناة.
وفي تونس، يغلب على الأسطول الطابع الحرفي التقليدي، إذ تتألف معظم السفن من وحدات صغيرة لا تتجاوز 15 مترا، لذلك يبقى النظام اختياريا وغير إلزامي.
أما المغرب، فهو الأكثر تقدما في هذا المجال، إذ تشمل الأرقام الدولية أغلب السفن الصناعية العاملة في أعالي البحار، غير أن العديد من القوارب الصغيرة العاملة في البحر المتوسط لا تزال تعمل خارج منظومة التتبع.
وخلال الدورة نفسها في نوفمبر 2025، لم يعتمد المقترح القاضي بفرض الأرقام الدولية إلزاميا على السفن التي يبلغ طولها 15 مترا فما فوق. إذ اقتصر القرار على السفن ابتداء من 20 مترا، رغم اعتباره خطوة أساسية لتعزيز الشفافية ومكافحة الصيد غير القانوني، وهو ما أثار ردود فعل متباينة في أوساط المنظمات البيئية.
فقد صرحت هيلينا ألفاريز، كبيرة علماء البحار في منظمة أوشيانا: «قرار اللجنة العامة لمصايد المتوسط بفرض الأرقام الدولية على السفن التي يبلغ طولها 20 مترا خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه لا يكفي لتحقيق الشفافية الحقيقية.»
ورحبت منظمة الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) بالتقدم المحقق، لكنها شددت على ضرورة توسيع نطاق القرار ليشمل السفن الأصغر مستقبلا.
وقالت “سيمون نيدرمولر”، القائمة بأعمال مسؤولة سياسات المصايد في الصندوق العلمي للطبيعة WWF-المتوسط: «من الضروري أن تحمل جميع السفن التي تغادر مناطقها الاقتصادية الخالصة رقما دوليا في المستقبل، كما يجب اتخاذ خطوات إضافية لتعميم معرفات فريدة وموثوقة على الشرائح الأصغر من الأسطول.»
لكن هذا القرار يفتح أيضا ثغرة قانونية، إذ إن كثيرا من السفن الصناعية ونصف الصناعية العاملة في أعالي البحار يتراوح طولها بين 15 و20 مترا، ما يسمح لها بتفادي التسجيل الدولي، ويجعلها غير قابلة للتتبع، الأمر الذي يقوض مبدأ المنافسة العادلة، خاصة وأن الاتحاد الأوروبي يفرض منذ مدة على السفن التي يتجاوز طولها 15 مترا التسجيل في النظام الدولي عند عملها في المياه الدولية.
ومن دون رقم مرجعي المنظمة البحرية الدولية (IMO) يصبح التحقق من هوية السفينة أو ملكيتها أو سجل امتثالها أمرا بالغ الصعوبة، مما يتيح للمشغلين تغيير الأسماء أو الأعلام بسهولة أكبر.
من “عالم الصمت” إلى صخب البيانات
في خمسينيات القرن الماضي، كسر “جاك إيف كوستو” صمت الأعماق، وكشف جمالها في فيلمه الأسطوري «العالم الصامت» (1956). أما اليوم، فتحاول حفيدته كسر صمت البيانات بالدعوة إلى الشفافية الرقمية في تتبع السفن.
وجوهر رسالتها يمكن اختصاره في جملة واحدة: «بالنسبة لألكسندرا كوستو، الشفافية في تتبع السفن هي الشرط الأول لأي شكل من أشكال الحماية.»
بين جيل الجد وجيل الحفيدة، الرسالة واحدة، وإن تغيرت اللغة. كان الجد يحمل كاميرا ليظهر للعالم جمال البحر،
أما الحفيدة فترفع رموزا رقمية لتكشف حقيقته.
ومن عدسة “الكاليبسو” إلى رموز المنظمة البحرية الدولية، تبقى الروح ذاتها: أن نحب البحر يعني أن نعرفه، وأن نحميه.

من الوعي إلى الفعل
لم تملك الدورة الثامنة والأربعون للجنة مصايد المتوسط عصا سحرية، لكنها أطلقت نداء واضحا للفعل. هل ستستجيب حكومات المتوسط لنداء ألكسندرا كوستو؟
هل ستعتمد اللجنة أخيرا الأرقام الدولية كأداة للعدالة والشفافية للسفن التي يتجاوز طولها 15 مترا؟
كما قال جاك كوستو يوما: «نحن لا نحمي إلا ما نحب، ولا نحب إلا ما نفهم.» واليوم، لا يمكن أن نفهم أو نحمي البحر المتوسط دون شفافية رقمية تكشف ما يجري على سطحه وفي أعماقه.
إن اعتماد الأرقام الدولية للسفن بطول 15 مترا فأكثر فعل محبة واع للبحر وللأجيال القادمة.
حين يلتقي العلم والتتبع بالفعل العاجل
بين التقارير العلمية والنداءات البيئية، امتزج صوتان، سكولوس وكوستو، في تناغم واحد: نداء للانتقال من الوعي إلى الفعل، ومن الخطاب إلى القرار.
البحر المتوسط لا يحتاج إلى مزيد من المؤتمرات، بل إلى إرادة سياسية وشفافية رقمية.
وكما قالت “سيمون نيدرمولر” من الصندوق العالمي للطبيعة (WWF-المتوسط): «قرارات هذا العام تبعث على الأمل الحقيقي، لكن العمل الأصعب يبدأ الآن…»








































