فلنتكاتف لتحويل التحديات إلى فرص
بقلم المدير العام لمنظمة “فاو” جوزيه غرازيانو دا سيلفا
يجتمع خلال الأسبوع المقبل وزراء الزراعة من بلدان الشرق الأدنى وشمال إفريقيا بمقر المنظمة في العاصمة الإيطالية، في غضون الدورة 32 لمؤتمر المنظمة الإقليمي للشرق الأدنى، كمناسبة بالغة الأهمية لتعزيز التفاهم والحوار والعمل المشترك في مجال الأولويات الإقليمية الحاسمة والأكثر إلحاحاً فيما يخص الأمن الغذائي والزراعة على صعيد الإقليم.
ويأتي المؤتمر خلال فترة من التحديات غير المسبوقة في عموم المنطقة، إذ شهدت السنوات القليلة الماضية جملة من العوامل المعقدة التي دفعت إلى مطالب شعبية بتغييرات اجتماعية واقتصادية؛ في حين كشف الركود في اقتصادات بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”OECD” ، بالإضافة إلى قفزات أسعار المواد الغذائية، والنزاعات التي طال أمدها عن مدى تعرّض الإقليم لخطر انعدام الأمن الغذائي.
ويستورد الإقليم حالياً أكثر من 50 بالمائة من الحبوب التي تستهلكها بلدانه، ويعتمد على الواردات لتلبية احتياجاته الغذائية. والمرجّح أن فاتورة الاستيراد الغذائي الباهظة التكلفة التي يتعين على الإقليم تسديدها لقاء ذلك ستنمو في المستقبل، ومعها سيتفاقم التعرّض لصدمات أسعار الغذاء. ناهيك عن أن العديد من بلدان الإقليم فقدت ثقتها في السوق الدولية بسبب إجراءات حظر الصادرات التي رافقت قفزات أسعار المواد الغذائية عام 2008. ولذا فإن إقليم الشرق الأدنى وشمال إفريقيا بات المنطقة الوحيدة، باستثناء شبه الجزيرة الكورية، التي ستعجز خلال المستقبل المنظور عن إشباع احتياجاتها الغذائية رغم التكنولوجيا والمعارف المتوافرة فعلياً في عالم اليوم.
وإذ لا تدل مؤشرات الأمن الغذائي عموماً عن وضعية خطيرة، إلا أن الإقليم يعاني من “عبء مزدوج لسوء التغذية”، بالنظر إلى أن ما يقرب من ربع أطفال الإقليم مصابون بتقزّم النمو بسبب نقص التغذية المزمن، وفي الوقت ذاته فإن ربع سكانه يعانون من السمنة.
ولا غرو أن قدرة الإقليم على مجابهة الأزمات لهي جديرة بالملاحـظة. فقد استثمرت بلدانه في بناء احتياطيات غذائية، وتوسيع شبكات الضمان الاجتماعي، واستقدام تكنولوجيات زراعية مستجدة، والنهوض بالإنتاجية الزراعية للمياه، وزيادة القيمة المضافة في قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية ومصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية. وثمة إقرار الآن بأن تقليص انعدام الأمن الغذائي ليس قضية طوارئ فحسب، وإنما يشكّل أيضاً ضرورة لا بد منها على المدى الطويل لاستقرار المنطقة. وفي حين نجحت عدة بلدان في الحد من انعدام الأمن الغذائي، تمكنت بلدان أخرى بالإقليم من خفض نسبة الجياع بمقدار النصف حتى قبل الجدول الزمني المحدد لذلك وفق هدف الألفية الإنمائية ومؤتمر القمة العالمي للأغذية.
كما تتجه الحكومات الآن إلى إدراك أوسع نطاقاً لحقيقة أن الجهود الرامية إلى تحقيق التنمية الشاملة لن يحالفها النجاح ما لم يمكن القضاء على أسباب انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية.
غير أن معالجة جميع أشكال سوء التغذية وضمان التنمية الزراعية المستدامة لن يكون أمراً سهلاً بحال، في إقليم تكبّله قيود هيكلية تعترض تنميته الزراعية وأمنه الغذائي. وقد يواجه إقليم الشرق الأدنى وشمال إفريقيا أسوأ أزمات ندرة المياه عبر تاريخه خلال العقود المقبلة، إذ لا يكاد يملك 10 بالمائة من موارد العالم المائية. بل ويتجه نصيب الفرد من توافر المياه على صعيد الإقليم إلى التراجع بنسبة 50 بالمائة بحلول عام 2050 نتيجة للنمو السكاني، والتوسع الحضري السريع، وتغير المناخ. كذلك يتعرض ما يقرب من 90 بالمائة من أراضي الإقليم للتدهور، حيث لم تعد نسبة كبيرة من الأراضي متاحة للاستخدام الزراعي تحت ضغوط التوسع العمراني، والممارسات غير السليمة في إدارة الأراضي، والتصحر.
إن التحديات التي يواجهها الإقليم هائلة بحق، لكن الفرص المتاحة أمامه هي كذلك أيضاً.
ففي جميع أنحاء الإقليم، يرد العديد من قصص النجاح التي توضح بلا لبس مدى إمكانيات القطاع الزراعي كمحرّك للنمو والعمالة. وما زالت الزراعة تساهم بمتوسط مقداره 13 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي إقليمياً، وتوفر فرص العمل والدخل لنسبة 38 بالمائة من السكان النشطين اقتصادياً فيه. وكأمثلة قليلة تذكر، تصدِّر مــصــر بالفعل ما قيمته 2 مليار دولار سنوياً من منتجات الخضروات، أي ما يكفي لتغطية تكاليفها الهائلة لاستيراد القمح؛ وتحتل تونس موقع الريادة عالمياً في صادرات زيت الزيتون؛ كما يعدّ المغرب مصدِّراً رئيسياً للحمضيات والطماطم على الصعيد الدولي. أما الأردن، كواحدة من أكثر البلدان شَحاً في العالم من الموارد المائية، فلديه قطاع دينامي للصناعات الزراعية.
وإذا كان من المتعين أن نبني على صرح الإنجازات التي حققتها بلدان الإقليم في العقود الأخيرة، فإننا بحاجة أيضاً إلى بلوغ أهداف أبعد.
فما يحتاجه الإقليم هو احتضان نموذج الإنتاج الزراعي المستدام على نطاق أوسع، وتعزيز نهج النظام الايكولوجي في التنمية الزراعية لصون المياه والاستفادة المثلى من الموارد الطبيعية. كما يتطلب الإقليم استثمار المزيد في إنتاجية صغار المزارعين، وفي سبل المعيشة وتهيئة فرص العمل للشباب والنساء، وتنفيذ تدابير الحماية الاجتماعية القابلة للتطبيق ضماناً لوصول الفئات الأشد ضعفاً إلى الغذاء.
وفي غضون السنة الدولية الراهنة للزراعة الأسرية، ينبغي لصنّاع القرار في مختلف أنحاء الإقليم إيلاء مزيد من الاهتمام لصغار المزارعين والرعاة وصيادي الأسماك، الذين يشكلون الجزء الأكبر من منتجي الإقليم. وإذ تمثل الزراعة الأسرية مفتاح التنمية الزراعية فهي قادرة على أن تساعد أيضاً على تطوير نظم غذائية أكثر استدامة، والتقليل من البصمة البيئية للأضرار الممكنة.
كذلك ثمة حاجة إلى اعتماد إجراءات كفيلة بإحداث تحوّل في أنماط استهلاك المواد الغذائية والتي تعتمد بقوة على المتحصلات المرتفعة من السعرات الحرارية، لصالح استهلاك مزيد من الأطعمة ذات القيمة التغذوية الأفضل؛ ومن شأن تقليص فاقد الأغذية وهدرها على طول سلسلة القيمة أن يساعد إلى حد بعيد في سد الفجوة القائمة بين إنتاج الغذاء واستهلاكه.
وفي غضون العام الماضي استخلصنا دروساً قيّمة من شتى الحوارات الإقليمية مع الحكومات والمجتمع المدني والشركاء، حول قضايا الأمن الغذائي والتغذية، وإدارة الأراضي والمياه، والزراعة الأسرية، والمساواة الجنسانية، والخطوط التوجيهية الطوعية بشأن الحوكمة المسؤولة في حيازة الأراضي ومصايد الأسماك والغابات.
وفي الأغلب والأعمّ، فإن فترات الشدائد تتيح الفرصة كيما تخرج الأفكار المبتكرة والإصلاحات الطويلة الأمد إلى حيز النور.
واليوم، فإن الوقت سانح أكثر من أي وقت مضى للعمل من أجل إقليم ينعم بالأمن الغذائي وقادر على المجابهة في الشرق الأدنى وشمال إفريقيا.