آفاق بيئية : نجيب صعب*
حين التأمت “مجموعة الفكر 20” أخيراً في الرياض، تحضيراً لقمة العشرين التي تعقد في العاصمة السعودية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، لم تأتِ مباحثاتها من فراغ. فالمواضيع المطروحة كانت متطابقة تماماً مع خطة النهوض السعودية “رؤية 2030”. لذا، لم يقتصر الحديث على الأمن والعلاقات الاقتصادية والسياسية، بل ذهب أبعد من ذلك، إذ ناقش خبراء من بعض أبرز مراكز الأبحاث أسس تدعيم الأمن والاستقرار من خلال عمل وطني وتعاون دولي يحقق التنمية المستدامة. فالازدهار الاقتصادي والاستقرار الأمني لا يقومان إلّا بالتناغم مع رعاية البيئة وترشيد استخدام الموارد الطبيعية.
مكان انعقاد المؤتمر كان مؤشّراً ذا دلالة. فقد استضافه مركز الملك عبدالله للدراسات والأبحاث البترولية، الذي يقود جهداً دولياً في مجال كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة. والمركز، الذي أنشئ أساساً لدراسة تكنولوجيا واقتصاد البترول، وسّع نطاق اهتمامه تجاوباً مع “خطة 2030” لتنويع الاقتصاد، بما فيه تنويع مصادر الطاقة، وهي عصب الاقتصاد.
من هنا لم يكن غريباً أن تركّز القيادة السعودية للمؤتمر على المناخ والبيئة، داعية إلى اعتماد “اقتصاد دائري” يدعم، في سبيل الحدّ من تغيُّر المناخ، أهداف النموّ، ويصدر عنه أقل قدر ممكن من الانبعاثات الكربونية. كما بحث المؤتمر تمكين المرأة وإعداد الشباب لمستقبل يسوده الازدهار الاقتصادي والاجتماعي المستدام. ويُعقد مؤتمر التواصل الفكري هذا سنوياً لمناقشة أفكار تعرضها مراكز الأبحاث، من أجل الخروج بأفكار رياديّة مبتكرة تُقدَّم إلى قمة العشرين. فالقمة، التي تضم الدول الأقوى اقتصادياً في العالم، وجدت لزاماً عليها البحث في إجراءات عملية قائمة على أسس علمية، لكي تحمي النمو الاقتصادي من عواقب التغيّر المناخي واستنزاف الموارد الطبيعية.
ليس صحيحاً أن تخفيف الانبعاثات الكربونية المسببة لتغيُّر المناخ ينتهي عند وضع قيود على استخدام الوقود. فاعتماد معايير صارمة للكفاءة في استهلاك الوقود، ولجميع مناحي الإنتاج والاستهلاك، هو الشرط الأساس. لأنه لو تم إنتاج كامل الكهرباء من الطاقة المتجددة، مثل الشمس والرياح، ولم يُستخدم الناتج بكفاءة، لاستمر هدر الموارد وارتفاع البصمة الكربونية. فتصنيع اللاقطات الشمسية وتوربينات الرياح وتشغيلها يتسبّب أيضاً بانبعاثات كربونية. لذا تبقى الكفاءة هي المفتاح لأي عمل جدّي لنجاح الاقتصاد الدائري.
وفي حين كان الاقتصاد التقليدي يتميز بثلاث مراحل، هي التصنيع والاستخدام ورمي المخلفات، فقد تبدّل هذا كلياً في مفهوم الاقتصاد الدائري، بحيث لم تعد المخلفات نهاية المطاف. الاقتصاد الدائري يبدأ من التصنيع المستدام، الذي يستخدم أقل قدر من الموارد الطبيعية للحصول على أكبر قدر من الإنتاج المفيد للناس والأقل ضرراً بالبيئة. ويتبع هذا استخدام المنتَج بكفاءة عالية، لأطول مدة، وإعادة استعماله قدر الامكان. وحين لا يبقى المنتَج قابلاً للاستعمال، يتم تفكيكه إلى مكوناته الأساسية، لاستخدامها في عملية إعادة تصنيع تبدأ معها دورة جديدة. فالعالم لم يعد يتحمل هدر الموارد، بما في ذلك اعتبار دورة الاستعمال الأولى نهاية المطاف.
قد يستغرب بعضهم الحديث عن كفاءة الموارد ضمن مركز للأبحاث البترولية في أحد أكبر البلدان المنتجة والمصدّرة للبترول. وهذا الاستغراب مفهوم إذا تذكّرنا نظريات كان يطلقها مستشارون في الماضي عن أن كفاءة استهلاك النفط تُضرّ بالمنتجين، إذ تقلّل من الطلب في السوق. لكن الوضع تبدّل اليوم، إذ أصبحت الكفاءة جزءاً في أيّ استراتيجية للطاقة. وليس هذا بداعي الاستجابة لتحدّيات الحد من التغيُّر المناخي فقط، بل لدواعي المصلحة الوطنية للمنتجين أيضاً. فاعتماد معايير صارمة للكفاءة على المستوى المحلي يؤدي إلى منافع صحية ناجمة عن تخفيف الانبعاثات السامة، مثل الكبريت وأول أوكسيد الكربون وأوكسيدات النيتروجين. وهذا يساهم في الوقت نفسه في المساعي الدولية للحدّ من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المسببة للاحتباس الحراري. أما على المستوى الاقتصادي، فتؤدي الكفاءة داخل الدول المنتجة إلى توفير كمية أكبر من النفط للتصدير، وإلى حفظ الثروات الطبيعية للأجيال المقبلة. فللنفط استخدامات أوسع من الحرق لإنتاج الطاقة، عدا عن أن تطوير تقنيات رخيصة في المستقبل لالتقاط الكربون وتخزينه سيفتح مجالات واسعة لاستخدام أنظف.
ولا بدّ لهذا الاتجاه نحو الكفاءة وتنويع المصادر من أن يتطوّر إلى مراتب أعلى في عهد الوزير السعودي الجديد للطاقة. فالأمير عبدالعزيز بن سلمان كان رائداً في مجال كفاءة الطاقة على المستويين المحلي والدولي، عبر مسؤولياته القيادية في قطاع النفط منذ زمن طويل. وحين مثّل السعودية في اجتماعات منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، كان في طليعة الداعين إلى كفاءة الطاقة وتنويع مصادرها، كما كان دائماً على قناعة بأن الانخراط في المساعي الدولية للحدّ من التغيّر المناخي لا يتعارض، في حال توزيع الأعباء بعدالة، مع مصالح الدول المنتجة للنفط.
اجتماع قمة العشرين في الرياض نهاية هذه السنة سيكون فرصة للمشاركة والتفاعل ولانطلاقة جديدة نحو المستقبل، في عالم متغيّر فرضت البيئة نفسها كبند رئيسي على جدول أعماله.
*نجيب صعب، الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة “البيئة والتنمية”