ها نحن نبدأ من جديد. بعد الوصول إلى قناعة بعدم إمكانية إنشاء المفاعل النووي الأردني العتيد في العقبة، وفي محيط محطة الخربة السمراء لتنقية مياه الصرف الصحي في المفرق، وهي قناعة كلفت عشرات الملايين من الدولارات في دراسات المواقع والجغرافيا والبيئة والطبوغرافيا وغيرها، يبدو أن هيئة الطاقة الذرية قررت (وهي تقرر لوحدها دائماً) أن منطقة «قصير عمرة» مناسبة لإقامة المفاعل، وذلك لتحقيق المزيج النادر بين الحضارة الأموية والحضارة النووية!.
كما نعرف جميعاً، لا يقع قصير عمرة بجانب البحر ولا قرب نهر جار للحصول على مياه مستمرة للتبريد، بل يقع في قلب الصحراء الأردنية، في منطقة توجد تحتها أحواض للمياه الجوفية تكاد لا تكفي لأغراض الشرب والزراعة وهي معرضة للكثير من التملح. منطقة قصير عمرة تبعد عن العاصمة عمان 75 كيلومتراً، وهي منطقة أثرية تتضمن واحداً من أهم الآثار الأموية ويقع بجانبها العديد من التجمعات السكنية، مما يتنافى مع الكثير من أسس وإجراءات اختيار مواقع المحطات النووية التي حددتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لحسن الحظ أن لدينا من العلماء في الأردن من هم أكثر معرفة من علماء الوكالة الدولية للطاقة الذرية ويستطيعون القول بأن قصير عمرة مناسب لإقامة المحطة النووية. وفي حال اعترض الناس ونشطاء البيئة، بل حتى علماء طاقة ذرية آخرون، يمكن بسهولة اتهامهم بممارسة الشغب والجهل بل العمالة لجهات خارجية. ما لا يدركه المشاغبون أمثالنا أن التفكير الاستراتيجي للوبي النووي في الأردن يهدف إلى جعل منطقة قصير عمرة معلماً سياحياً فريداً في العالم، يضم بقايا الحضارة الأموية إلى جانب بقايا الحضارة النووية، حيث يمكن للسائح بتذكرة واحدة أن ينتقل 1300 سنة في التاريخ في موقع واحد!
يمكننا أن نحتمل الكثير من أشكال «الفهلوة» في إدارة الشأن العام في الأردن، ولكن ليس الطاقة النووية. إذا كانت الطاقة النووية مطلوبة كجزء من مزيج الطاقة الكلي في الأردن وخياراً مهماً، فلا بد من إدارته بطريقة علمية سليمة وتحترم عقول الناس.
لا أملك شهادة دكتوراه في الطاقة الذرية من «أرقى» الجامعات الأميركية، كما يحب المسؤولون عن البرنامج النووي أن يصفوا أنفسهم، ولكنني أحمل شهادة ماجستير في علوم البيئة من الجامعة الأردنية التي أفخر بها. منذ ثلاث سنوات طرحت خمسة أسئلة بسيطة حول البرنامج النووي الأردني لم يتم الإجابة عنها حتى الآن، وها هي:
1. كم تبلغ كلفة المفاعل النووي من الجيل الثالث الذي سيتم بناؤه في الأردن، ابتداء من دراسات الموقع والتصميم مروراً بالإنشاء وأجهزة السلامة والصيانة والإدارة ومعالجة المخلفات وغيرها من الدورة النووية الكاملة؟ المفاعل الذي يتم بناؤه في فنلندا من قبل شركة آريفا، وهو من النوع الذي سيتم بناؤه في الأردن، وصلت كلفته حتى الآن إلى سبعة بلايين يورو (9,3 بلايين دولار) ولم ينته بعد. ما هي المساهمة العامة في هذا التمويل، خاصة أن النسب المقترحة من هيئة الطاقة الذرية تتراوح بين 36 و50 في المئة؟ وما هو مصدر هذه الأموال العامة؟
2. من أين سيتم إمداد المفاعل بمياه التبريد، وما هي كميتها، وما هي خطط الطوارئ عند الإضطرار إلى استخدام كميات مياه أكبر في حال ارتفاع درجات الحرارة وصولاً إلى خطر الانصهار نتيجة أخطاء إدارية داخلية أو كوارث خارجية؟ لهذا السبب يتم بناء المفاعلات بجانب البحار والأنهار الكبرى وليس في قلب الصحراء، وهي بالكاد تنجح في حماية المفاعلات كما حدث مؤخراً في فوكوشيما.
3. كيف ستتم معالجة المخلفات الذرية الناجمة عن المفاعل، وكيف سيتم نقلها إلى موقع المعالجة داخل الأردن أو خارجه؟ لا توجد في العالم حتى الآن مواقع مرخصة لمعالجة هذه المخلفات.
4. ما هي الكميات الحقيقية لليورانيوم في الأردن؟ هل تعتقد هيئة الطاقة الذرية أن ادعاءاتها حول كميات اليورانيوم المجدية اقتصادياً أصدق من نتائج تجارب شركتين من أكبر شركات العالم في التنقيب (أريفا وريو تنتو) انسحبتا من الأردن بسبب عدم وجود جدوى من اليورانيوم؟
5. ما مدى تطبيق مفاهيم السلامة العامة وحماية البيئة في واحدة من أشد ممارسات التعدين تأثيراً على الصحة والبيئة ولعقود طويلة وهي تعدين اليورانيوم؟ ان تجارب العديد من الدول تركت وراءها كوارث هائلة في مواقع التعدين، ومن المفترض الحرص على إعادة تأهيل جميع المواقع التعدينية لليورانيوم بطريقة سليمة تمنع تراكم الإشعاعات في الجو والتربة والمياه. في تجاربنا الأردنية، تسبب تعدين الفوسفات بكارثة بيئية لا يوجد حل لها حتى الآن، فكيف بتعدين اليورانيوم؟
من حق الناس أن يعرفوا الإجابات، سواء في العقبة أو الخربة السمراء أو قصير عمرة … أو حتى في البتراء إذا تم التفكير فيها كموقع للمفاعل النووي!
(ينشر بالتزامن مع مجلة “البيئة والتنمية” عدد تشرين الأول/أكتوبر 2013)