ملتقى الدانمارك/ اليونسكو في الرباط: الإعلام والعلم والمؤثرون في قلب الحوكمة البيئية لمحميات المحيط الحيوي

محمد التفراوتي11 يوليو 2025آخر تحديث :
ملتقى الدانمارك/ اليونسكو في الرباط: الإعلام والعلم والمؤثرون في قلب الحوكمة البيئية لمحميات المحيط الحيوي

آفاق بيئية: محمد التفراوتي

انعقد قبل يومين ملتقى رئيسي في الرباط، في سياق إقليمي ودولي بالغ الأهمية. تواجه محميات المحيط الحيوي، التي تعد فضاءات حقيقية للتجارب البيئية والتنموية، تحديات متزايدة تتعلق بتغير المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، وتفاقم أزمات التلوث. وقد تميز هذا الملتقى، الذي نظمته الدنمارك بالتعاون مع اليونسكو، باستكشافه المتعمق لدور الجهات الفاعلة غير التقليدية في الحوكمة البيئية، ولا سيما الباحثون العلميون والاعلاميون وصناع المحتوى الرقمي.

أدوار محورية في الإدارة المستدامة

من أبرز ما خلص إليه الملتقى أن الإدارة الفعالة لمحميات المحيط الحيوي لم تعد ترتكز فقط على البعد البيئي والمؤسساتي، بل باتت تتطلب شراكة معرفية–تواصلية تجمع بين إنتاج المعرفة العلمية، وصياغة الرسالة البيئية، وتأطير الرأي العام. الباحثون يُنتجون البيانات، الصحفيون يُترجمونها إلى سرديات قابلة للفهم، والمؤثرون يُعيدون تقديمها بأساليب تفاعلية تربط المواطنين بالقضايا البيئية.

ومع ذلك، أشار المشاركون إلى أن هذا التكامل لا يزال محدودا، وغالبا ما يتم عبر مبادرات فردية أو ظرفية تفتقر إلى الاستمرارية والمنهجية.

من الشواهد إلى النظام: الحاجة إلى مقاربة منهجية

و رغم وجود أمثلة ناجحة لتغطيات إعلامية أو تعاون بين علماء و الاعلاميين، إلا أن معظمها ظل في إطار اجتهادات شخصية أو تجارب محدودة. وهذا ما يبرز الحاجة إلى إرساء مقاربة نظامية (systemic approach)، قادرة على مأسسة العلاقة بين الإعلام والبحث البيئيو خلق مسارات واضحة للتعاون بين الصحفيين وشبكة محميات الإنسان والمحيط الحيوي (MAB). و تشجيع إدارات المحميات على تطوير أدوات للتواصل العلمي مع الإعلام والجمهور.

أدوات ملموسة لتفعيل الشراكة الإعلامية–العلمية

ولإنجاح هذا التحول، طرح الملتقى جملة من المدخلات العملية الكفيلة بجعل التعاون بين الباحثين والإعلاميين مؤسسيًا، منها إعداد دلائل تدريبية إعلامية تتناول محاور مثل التنوع البيولوجي، تغير المناخ، ومفاهيم المحميات. و إدراج هذه القضايا ضمن برامج تكوين الإعلاميين في المؤسسات الأكاديمية والمعاهد الإعلامية. و تيسير الوصول إلى نتائج الدراسات المكتبية والتقارير العلمية وتفسيرها بأسلوب يتناسب مع متطلبات العمل الاعلامي، مع اعتماد مسار المتابعة والتقييم البيئي كمصادر غنية للقصص الصحفية الميدانية. و تنظيم ورشات عمل تطبيقية داخل المحميات تضم إعلاميين وباحثين ومؤثرين، لتقوية العلاقة العملية بين الأطراف.

فهم أعمق لمفهوم المحمية: من الحفظ إلى التجريب المجتمعي

و أظهر النقاش خلال الملتقى أن فهما سطحيا، بل أحياناً خاطئا،  لا يزال سائدا حول طبيعة محميات المحيط الحيوي. فالكثيرون ينظرون إليها كمناطق مغلقة لحماية النباتات والحيوانات فقط، في حين أن جوهر الفكرة يقوم على دمج الإنسان في الطبيعة لا فصله عنها. و الحفاظ على التنوع البيولوجي بالتوازي مع التنمية المستدامة. وتعزيز الابتكار المحلي في سبل العيش والإنتاج. و تشجيع التعليم والتعلم من خلال التجريب البيئي و الاجتماعي.

وهذا المفهوم المركب يستدعي جسورا معرفية بين العلماء والإعلاميين، تنقل هذا الفهم إلى الجمهور، وتغير الصورة النمطية حول المحميات.

القصة الإنسانية: العمود الفقري للإعلام البيئي المؤثر

أحد المحاور التي حظيت بإجماع واسع، هو ضرورة الانطلاق من “القصة الإنسانية” عند تناول قضايا المحميات. كيف تؤثر هذه المحمية على نمط عيش السكان؟ كيف تسهم في صون هويتهم الثقافية؟ كيف تحسن اقتصادهم المحلي أو تغير علاقتهم بالأرض والماء والغابة؟

هذه الأسئلة تشكل جوهر السردية البيئية الجديدة، والتي لا تكتفي بتقديم الأرقام أو البيانات، بل تضع الإنسان في صلب الحدث، مما يجعل القضية البيئية قضية مجتمعية تحرك التعاطف والمسؤولية.

ولتحقيق ذلك، اقترح الملتقى أن تنظم داخل المحميات مشاريع تجريبية ميدانية (demonstration projects) مخصصة للإعلاميين، تمنحهم فرصة للمعايشة المباشرة، وتساعدهم على بناء سرديات عميقة ومتعددة الأبعاد.

مستقبل الإعلام البيئي: شراكة مع المؤثرين وصناع المحتوى

من بين المداخل التجديدية التي ناقشها الملتقى، تلك التي تدعو إلى إعادة تصور الإعلام البيئي في الزمن الرقمي. فالاعلام البيئي لم تعد حكرا على المقالات والتقارير، بل باتت تشمل الفيديوهات القصيرة، القصص المصورة، التدوينات التفاعلية، والوسائط الرقمية متعددة الأشكال. وهنا برز دور المؤثرين وصناع المحتوى الرقمي كحلفاء محتملين في إيصال القضايا البيئية لجماهير جديدة، خاصة الشباب، عبر لغات بصرية وسردية تتجاوز التقليد الصحفي الكلاسيكي.

ومن هذا المنطلق، دعت توصيات الملتقى إلى توسيع فريق “المعرفة ذات المصلحة العامة” ليشمل هؤلاء الفاعلين الجدد، باعتبارهم شركاء لا منافسين.

من صحافة الأزمات إلى صحافة الحلول

طرح الملتقى بقوة مفهوم “الإعلام البيئي القائم على الحلول” (Solutions Journalism)، باعتبارها بديلا لصحافة الكوارث والمآسي البيئية التي قد تنتج الشعور باليأس أو العجز. فمحميات المحيط الحيوي لا توفر فقط معطيات عن المخاطر، بل تقدم أمثلة واقعية عن الزراعة المستدامة و تقنيات الحفظ المجتمعي، والطاقة المتجددة المحلية، ثم الاقتصاد الاجتماعي والابتكار القروي. وكلها قصص قابلة للسرد، قادرة على إلهام المجتمعات الأخرى وتوجيه السياسات العمومية.

الشبكات العضوية: من منطق التمركز إلى منطق التشارك

في مقابل النماذج الهرمية الجامدة، طرح المشاركون تصورا جديدا قوامه “الشبكات العضوية”، وهي شبكات مرنة تتعاون دون مركزية أو هيمنة. وتقوم الفكرة الجوهرية على احترام خصوصيات كل فاعل. والتكامل لا التكرار. و تقاسم الموارد، القصص، والتجارب. و تعزيز التراكم المعرفي والتواصلي.

وهكذا تصبح العلاقة بين الإعلاميين والباحثين ومديري المحميات مسارا أفقيا متفاعلا ينتج معرفة جماعية وخدمة بيئية عامة.

نحو جسر استراتيجي بين المعرفة والتأثير

يذكر أن ملتقى اليونيسكو بالرباط شكل لحظة نوعية لإعادة تموقع الفاعلين ضمن منظومة محميات المحيط الحيوي. فقد تم تجاوز منطق الفصل بين العلم والإعلام، أو بين الأكاديمية والتواصل، نحو منطق الشراكة الاستراتيجية متعددة المستويات.

في هذا السياق، لم يعد الإعلامي ناقلا فقط للخبر، بل فاعلا في صياغة التغيير. ولم يعد الباحث معزولا، بل محاورا ومشاركا في الفضاء العمومي. أما المؤثرون، فهم اليوم في موقع يمكن أن يجعل منهم جسرا حيويا بين المعرفة والتأثير المجتمعي.

وبذلك فبناء هذا الجسر، بين الباحث والصحفي، بين المختبر والميدان، بين المحمية والمجتمع، هو ما يحتاجه عالمنا اليوم لضمان حوكمة بيئية مستدامة، عادلة، وقائمة على الإنسان والطبيعة معا.

وعلى هامش الملتقى أجرينا حوار سريعا مع مدير قسم العلوم البيئية وعلوم الأرض ضمن قطاع العلوم الطبيعية في اليونسكو وأمين برنامج الإنسان والمحيط الحيوي السيد أنطونيو أبريو 

سؤال 1: كيف يمكن ضمان استدامة التعاون بين العلماء والصحفيين والكتاب والمؤثرين البيئيين داخل محميات المحيط الحيوي لليونسكو، لمواجهة الأزمات الكوكبية الثلاث، بعد انتهاء هذا اللقاء؟

الجواب: لضمان استدامة هذا التعاون، من الضروري إضفاء الطابع المؤسسي على فرص الحوار والتشاركية وبناء القدرات داخل مجتمع برنامج “الإنسان والمحيط الحيوي” (MAB). ويمكن تحقيق ذلك من خلال ثلاث مسارات رئيسية ممثلة في إنشاء منصات دائمة لتبادل المعرفة داخل المحميات الحيوية وبينها، حيث يمكن للعلماء والفاعلين الإعلاميين تطوير قصص مستندة إلى الواقع المحلي والمعطيات العلمية. و تعزيز التكوين والتأطير للصحفيين والكتاب والمؤثرين من أجل رفع جودة ودقة المحتوى البيئي، إلى جانب تمكين العلماء من مهارات تواصل أكثر فعالية. ثم تعبئة الشباب والأصوات المحلية عبر دعم رواة القصص والمبدعين المجتمعيين، لضمان وصول الرسائل البيئية بشكل واسع وشامل. و تلعب اليونسكو دورا محفزا في الربط بين الشركاء، وتيسير التعلم المتبادل، ونشر هذه المبادرات على الصعيد العالمي.

سؤال 2: ما هي أبرز التوصيات القابلة للتنفيذ التي يمكن إدراجها في خطة العمل الاستراتيجية المقبلة لبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي (2025–2035)؟

الجواب: من أبرز التوصيات التي برزت خلال هذا اللقاء المتعدد الأقاليم، دعم الابتكار المجتمعي الذي يدمج المعارف التقليدية مع العلوم الحديثة لتعزيز الحلول القائمة على الطبيعة. و اعتبار التواصل العلمي والمعرفة البيئية وظائف أساسية داخل المحميات الحيوية، مع تخصيص موارد لهذا الغرض. و تعزيز التعاون بين بلدان الجنوب والتعاون الثلاثي لنقل النماذج الناجحة وتكييفها بين المناطق. و وضع آليات واضحة للرصد والمساءلة للشراكات المحلية والمنصات التشاركية لضمان نتائج ملموسة. بتناغم الإطار العالمي مع واقع المجتمعات المحلية، يصبح برنامج MAB محركا حقيقيا للتغيير المستدام.

سؤال 3: ما مدى قدرة مكاتب اليونسكو الميدانية، خاصة في إفريقيا والمنطقة العربية، على دعم تنفيذ المبادرات المحلية وتعزيز التعاون متعدد الأطراف؟

الجواب: تلعب مكاتب اليونسكو الميدانية دورا حيويا في ترجمة الرؤى العالمية إلى نتائج محلية، وذلك من خلال تسهيل منصات التعاون التي تجمع المجتمعات المحلية والحكومات والمجتمع المدني والجامعات والإعلام. و توفير الدعم الفني وبناء القدرات لمبادرات المجتمع، مما يساعد على توسيع نطاق الحلول المحلية الناجحة. ثم قيادة حملات مناصرة تراعي الخصوصيات المحلية لجذب الاستثمارات الوطنية والإقليمية نحو المحميات الحيوية باعتبارها مختبرات حية للتنمية المستدامة. وعليه بفضل تعزيز الشراكات في إفريقيا والمنطقة العربية، تظل المحميات الحيوية منارات أمل وصمود في مواجهة الأزمات البيئية العالمية.

السؤال 4: ما هي انطباعاتكم حول الملتقى وهل بلغ النتائج المنتظرة؟جواب : يمكنني القول إن هذا الاجتماع كان مثمرا للغاية، إذ عزز الاعتراف بأهمية التواصل، وخاصة دور وسائل الإعلام، في تعزيز برنامج «الإنسان والمحيط الحيوي» التابع لليونسكو، وشبكة المحميات الحيوية العالمية، باعتبارها مواقع تدعم حفظ الطبيعة والتنوع البيولوجي، وهما ركيزتان للتنمية السوسيو-اقتصادية وللهوية الثقافية للمجتمعات المحلية المقيمة في هذه المناطق. ومن جهة أخرى، مكن الاجتماع من تحديد حلول ومسارات ممكنة لتوسيع مشاركة الصحفيين وتوظيف تكنولوجيا الإعلام في مكافحة التضليل المتعلق بالتنوع البيولوجي وتغير المناخ والقضايا البيئية بوجه عام. ويمكن اختبار هذه الحلول في المحميات الحيوية، نظرا لما تتمتع به من حوكمة شاملة ودعم تقني وعلمي من برامج اليونسكو. وباختصار، خرجنا من هذا الاجتماع بقناعة أقوى وبمقترحات ملموسة لدفع برنامج محميات المحيط الحيوي MAB قدما، ولدعم المحميات الحيوية في مهامها لحماية التنوع البيولوجي وتعزيز التنمية المستدامة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!