سد النهضة والموارد المائية الإثيوبية

محمد التفراوتي22 يونيو 2020آخر تحديث :
سد النهضة والموارد المائية الإثيوبية

هل هو “تطلع للطاقة الكهرومائية” أم “محاولة للهيمنة المائية”؟!

آفاق بيئية :  د.خالد محمود ابو زيد*

بات “سد النهضة” الإثيوبي المقام على النيل الأزرق مشروعًا مثيرًا للجدل ومحفزًا للخلافات حول المياه بين مصر وإثيوبيا والسودان. لفت المشروع انتباه العالم كونه سيدفع نحو اضطرابات محتملة بين إثيوبيا، من جهة، وهي لاعب رئيسي في القرن الأفريقي، ومصر، من جهة أخرى، كونها بلدًا استراتيجيًا وحلقة الاتصال بين القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأوروبا، ودعامة التوازن والسلام والأمن في المنطقة العربية والشرق الأوسط.

انتهاك إثيوبيا للقانون الدولي:

اعتبر المصريون مشروع سد النهضة الذي أقامته إثيوبيا بقرار أحادي على النيل الأزرق (أكبر رافد للنيل “أطول نهر في العالم”) في أبريل 2011 بمثابة استغلال للفراغ السياسي الذي حدث في مصر في أعقاب تنحي الرئيس في ذلك الوقت. يعد الشروع في بناء السد دون التشاور مع مصر انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي واتفاقية 1993 الموقعة بين إثيوبيا ومصر، واتفاقية 1902 الموقعة بين إثيوبيا والمملكة المتحدة، والتي أكدت على ضرورة التشاور مع دول المصب بشأن أية إنشاءات إثيوبية قد تؤثر على تدفقات منابع النيل عبر النيل الأزرق، وبحيرة تانا، ونهر سوباط، وتعيق مسار المياه لدولتي المصب السودان ومصر. يبدو أن إثيوبيا تنظر لمنابع نهر النيل التي تقع داخل أراضيها بوصفها مسألة سيادة مطلقة، وبالتالي ترى الاتفاقات الموقعة بين إثيوبيا ومصر أو المملكة المتحدة (نيابة عن مصر و / أو السودان) غير ملزمة لإثيوبيا.
وللأسف، لم تجري إثيوبيا تقييم شامل للأثر الهيدروليكي، أو تقييم للأثر البيئي، أو دراسات تقييم الآثار الاجتماعية الاقتصادية بشأن سد النهضة، كما أنها لم تتشاور حول هذه الأمور مع دولتي المصب الأكثر تأثرًا، مصر والسودان. وبموجب القانون الدولي، فإن القيام بمثل هذه الإجراءات – التي تجاهلتها إثيوبيا – يعد أمر ملزم. حتى عندما اتفقت الدول الثلاث على اختيار مكتب استشاري دولي لإجراء دراسات تقييم الاَثار العابرة للحدود، قامت إثيوبيا بعرقلة دراسات المكتب الاستشاري الدولي والضغط من أجل إعادة توصيف “سيناريو الأساس” ليشمل خطط إثيوبيا المستقبلية التي تضم سدود إضافية لتصبح وكأنها جزء من معايير خط الأساس أو الوضع الحالي. إن محاولة تعديل المصطلحات المتفق عليها عالميًا بهذا الشكل لن يصبح من شأنه إلا أن يلغي الهدف الأساسي من دراسات تقييم الاَثار الناجمة عن سد النهضة. إن تجنب إثيوبيا حضور الاجتماع النهائي في سلسلة المفاوضات التي تمت بتسهيل من الولايات المتحدة والبنك الدولي في نهاية يناير 2020، وإعلان إثيوبيا بدء ملء سد النهضة في يوليو 2020 قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع مصر والسودان، يُعد انتهاك آخر للقانون الدولي، وخرقًا لاتفاق إعلان المبادئ الذي وقعت عليه الدول الثلاث في عام 2015. وينص إعلان المبادئ على أن الدول الثلاث ستوافق على المبادئ الارشادية وقواعد الملء الأول والتشغيل السنوي لسد النهضة، الأمر الذي يعني أن الملء الأول لا ينبغي أن يتم دون اتفاق بين الدول الثلاث.

 

 

ماذا يعني النيل والنيل الأزرق بالنسبة لمصر؟

على عكس أي نهر آخر في العالم، فإن النيل، والنيل الأزرق على وجه الخصوص، يعد مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر. لذا، قال المؤرخ اليوناني “هيرودوت” إن “مصر هبة النيل”. ولتوضيح هذا الأمر من الناحية الفنية، دعونا نعرض المعلومات والحقائق التالية: 85٪ من مياه النيل المتدفقة إلى مصر تنشأ في إثيوبيا عبر روافد النيل الأزرق وعطبرة والسوباط. 67٪ من مياه النيل المخصصة و/أو التي تستخدمها مصر والسودان بالفعل تأتي من النيل الأزرق. يبلغ متوسط التدفق السنوي للنيل الأزرق حوالي 50 مليار متر مكعب، في حين أن الاستخدامات التاريخية لمصر، والحقوق المائية المصرية المكتسبة والموثقة تبلغ 55.5 مليار متر مكعب/السنة. ومن الناحية النظرية، يمكن للمرء أن نعتبر أن تدفق النيل الأزرق من إثيوبيا يمثل من حيث الحجم، 90٪ من الاستخدامات التاريخية لمياه النيل في مصر. ومن ثم، فإن نهر النيل هو المصدر الوحيد للمياه المتجددة في مصر، والتي تعتمد على النيل في تلبية حوالي 97٪ من احتياجاتها المائية. لذا، فإن سد النهضة والموقف الإثيوبي في التعامل مع هذه القضية يهددا مصير شريان الحياة في مصر وسبل عيشها وأمنها القومي.

محاولات التعدي على حقوق مصر المائية البالغة 55.5 مليار متر مكعب:

على الرغم من أن الهدف المعلن لـسد النهضة هو توليد الطاقة الكهرومائية، إلا أن الاستراتيجية الإثيوبية في التفاوض للاتفاق على قواعد الملء والتشغيل منذ القرار الإثيوبي الأحادي الجانب لبناء السد، تشير إلى هدف أبعد كثيرًا عن توليد الطاقة الكهرومائية. لقد مرت ما يقرب من 10 سنوات من المماطلة الإثيوبية دون التوصل إلى اتفاق مع دولتي المصب مصر والسودان. تُظهر الخطط المستقبلية لإثيوبيا أنها ربما تُخطط لتخزين المياه خلف سد النهضة لأغراض الاستخدام الاستهلاكي مثل الري الزراعي والأغراض الصناعية وغيرها. وفي هذا السياق، أظهرت الدراسات أنه نظرًا للسعة المبالغ فيها لخزان سد النهضة التي تصل إلى 74 مليار متر مكعب، والقواعد التشغيلية المتوقعة لزيادة توليد الطاقة الكهرومائية إلى أقصى حد، فإن الآثار التراكمية لفواقد التسرب والبخر من الخزان خلف السد يمكن أن يكون لها آثار ضارة على تدفقات نهر النيل الأزرق، وبالتالي من المحتمل أن تحد من قدرة مصر على الاستمرار في استخدام حقوقها المائية واستخداماتها التاريخية السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب.
سعت المواقف الإثيوبية خلال المفاوضات واستهدفت البيانات الصحفية بعد الاجتماعات إلى تحرير يد إثيوبيا في التعامل مع منابع النيل، ومحاولة تجريد مصر من حقوقها في حصتها النيلية الضئيلة البالغة 55.5 مليار متر مكعب في السنة. لطالما كانت اللغة الرسمية الإثيوبية واللغة الإعلامية تحاول التشكيك في حقوق مصر المائية، باستخدام عبارات مثل “حصص مصر المتنازع عليها” و”المطالبات المصرية بـــ55.5 مليار متر مكعب”. إنهم يعمدون إلى إيصال معلومات مغلوطة للمجتمع الدولي حول الإمكانات الكاملة للموارد المائية في حوض النيل، ويحاولون أيضًا تضليله من خلال التلميح إلى أساطير مثل “استخدام مصر لكل مياه النيل”. لفت مقال نُشر في إثيوبيا في 2 أبريل 2020 على موقع “إثيوبيا إنسايت”، إلى أن المفاوضين الإثيوبيين ذكروا أن “مصر والولايات المتحدة (خلال المفاوضات التي جرت برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي خلال 2019/2020) قد اقترحت خطة غير قابلة للتعديل، تهدف إلى “تخصيص المياه” عبر وضع ترتيبات تحمي بشكل فعال حصة مصر السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل”. وذلك، خلافًا للحقيقة وهي أن مسودة اتفاق سد النهضة في 21 فبراير 2020 (التي رفضتها إثيوبيا) كانت نتيجة للمفاوضات الميسرة مؤخرا عام 2019/2020 بين إثيوبيا ومصر والسودان، وليست خطة مقترحة بين مصر والولايات المتحدة، والتي هدفت للتأكد من أن الملء والتشغيل السنوي للسد لا يحدث ضررا ذي شأن بمصر والسودان. بعبارة أوضح، لم يكن ترتيبًا “لتخصيص المياه”، ولكنه كان اتفاقًا، يهدف إلى التوفيق بين تعظيم الطاقة الكهرومائية المولدة من السد في إثيوبيا، وبين الحد من الآثار والأضرار التي سيتسبب فيها السد جراء الإضرار بقدرة مصر والسودان على الاستمرار في استخدام حقوقهم المائية واستخداماتهم التاريخية للمياه. إن أي محاولة لتجاهل هذه الآثار تعد انتهاكًا للحقوق المائية لمصر والسودان. من ناحية أخرى، إذا كان هدف سد النهضة هو توليد الطاقة الكهرومائية الذي يفترض أنه استخدام غير استهلاكي، فلماذا تقحم إثيوبيا في المناقشات موضوع حق مصر في حصتها السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب؟ ولماذا تحاول تجريد مصر من هذا الحق؟! وبالحديث عن “الاستخدام المنصف والمعقول، هل من المفروض على مصر التي تستضيف 20٪ من سكان دول حوض النيل أن تستفيد فقط من 3٪ من أمطار حوض النيل البالغة 1660 مليار متر مكعب/سنة، أو حتى من 0.8٪ من الأمطار التي تسقط في دول حوض النيل والتي تصل إلى 7000 مليار متر مكعب سنة؟! تستفيد إثيوبيا بالفعل من 23٪ من الأمطار في حوض النيل أو 12٪ من الأمطار في دول النيل. وعليه، فإن الأمر لا يرتبط بنقص الموارد المائية في إثيوبيا، بل بأهداف أبعد من ذلك للتعدي على الحقوق المائية لجيرانها. ولتأكيد ذلك ولإلقاء مزيد من الضوء على هذه المسألة، دعنا نفحص موارد إثيوبيا المائية المتجددة.

 

الأمطار في إثيوبيا هي مياه خضراء لإثيوبيا ومياه زرقاء لمصر:

تتمتع إثيوبيا بوفرة في هطول الأمطار يبلغ متوسطها حوالي 848 مم/سنة، في حين تعتبر مصر، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، البلد الأقل معدل هطول للأمطار في العالم بحوالي 18.1 مم/سنويًا. تعتمد إثيوبيا بشكل رئيسي على الأمطار المباشرة (المياه الخضراء) في استخداماتها الاستهلاكية، وعلى تدفقات الأنهار (المياه الزرقاء) في توليد الطاقة الكهرومائية، في حين أن مصر هي دولة المصب الأخيرة لنهر النيل الذي تشترك فيه 11 دولة، وتعتمد في الاستخدامات الاستهلاكية وغير الاستهلاكية، على مياه نهر النيل (المياه الزرقاء) الناشئة خارج حدودها السياسية والذي تمر عبر أراضيها الصحراوية. لهذا السبب، بالنسبة لإنتاج الغذاء، تعتمد إثيوبيا بشكل أساسي على الزراعة المطرية، بينما تعتمد مصر بشكل أساسي على الزراعة المروية. وينعكس هذا أيضًا في امتلاك إثيوبيا لأكبر عدد من رؤوس الماشية في أفريقيا حيث يتجاوز 106 مليون رأس، تتغذى على المراعي الشاسعة، في حين تستورد مصر، بسبب ندرة المياه، غالبية منتجاتها من الماشية واللحوم، كما أنها أكبر مستورد قمح في العالم. تشير التقديرات إلى أن الماشية في إثيوبيا تستهلك حوالي 84 مليار متر مكعب في السنة من المياه الافتراضية المضمنة في الزراعات المطرية (المياه الخضراء) من الأعلاف والأغذية الحيوانية التي تعتمد عليها. وهذا يعادل التدفق الكامل لنهر النيل الطبيعي عند أسوان، وأكثر من حصص المياه السنوية النيلية لمصر والسودان مجتمعة (74 مليار متر مكعب). وفي المقابل، تستهلك الرؤوس الحيوانية التي تمتلكها مصر، والمقدرة بحوالي 19 مليون رأس من الماشية، سدس استهلاك المياه الحيوانية في إثيوبيا، حيث تصل فقط إلى 14 مليار متر مكعب/السنة فقط من المياه الافتراضية المضمنة في الأعلاف المروية (المياه الزرقاء) والأعلاف المستوردة في غالب الأمر. وبمقارنة تأثير هطول الأمطار على الغطاء الأرضي في إثيوبيا ومصر التي تتماثل مساحتهما بحوالي مليون كيلومتر مربع، وفقًا لتحليل صور الغطاء الأرضي للقمر الصناعي التابع لوكالة الفضاء الأوروبية ESA ، فإن حوالي 94٪ من مساحة إثيوبيا تمثل غطاء خضرية (زراعات مطرية ومراعي وغابات) اعتمادًا على “المياه الخضراء”، في حين أن حوالي 94٪ من مساحة مصر عبارة عن أراضي صحراوية، يمتد داخلها وادي ضيق على طول “المياه الزرقاء” لنهر النيل.

أين تذهب 936 مليار متر مكعب من الأمطار السنوية في إثيوبيا؟!

وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة، تحظى إثيوبيا في المتوسط بحوالي 936 مليار متر مكعب/سنويًا من الأمطار. أين تذهب هذه المياه؟! استنادًا إلى تصنيف وكالة الفضاء الأوروبية للغطاء الأرضي، يسقط 910 مليار متر مكعب من هذا المطر على الغطاء الخضري بما في ذلك الأراضي الزراعية المطرية والمروية والغابات وأراضي المراعي، في حين يسقط 26 مليار متر مكعب من هذا المطر على المسطحات المائية والأراضي الحضرية والجرداء. من بين 910 مليار متر مكعب من الأمطار على الغطاء الخضري، وفقًا لصور الأقمار الصناعية للتبخر الصادرة عن هيئة المساحة الجيولوجية بالولايات المتحدة، يتم استخدام حوالي 680 مليار متر مكعب بشكل مفيد من خلال البخر-نتح من الزراعات المطرية (107 مليار متر مكعب) والزراعات المروية (10 مليار متر مكعب) والمراعي (352 مليار متر مكعب) والغابات (211 مليار متر مكعب). ويفقد بالبخر حوالي 29 مليار متر مكعب من الأراضي القاحلة والمناطق الحضرية والمسطحات المائية. وتساهم حوالي 105 مليار متر مكعب في تغذية طبقات المياه الجوفية بالمياه الجوفية المتجددة. ووفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة، تساهم حوالي 122 مليار متر مكعب من الأمطار البالغ حجمها 936 مليار متر مكعب في تغذية المياه السطحية والأنهار، حيث يخرج حوالي 97 مليار متر مكعب من البلاد عبر الأنهار والمياه الجوفية العابرة للحدود إلى البلدان المجاورة؛ مصر، السودان، إريتريا، كينيا، الصومال، وجيبوتي. وتساهم 25 مليار متر مكعب من المياه السطحية المتبقية في تغذية البحيرات والمجاري المائية داخل إثيوبيا.

يشير التحليل أعلاه إلى أنه من بين 936 مليار متر مكعب من الأمطار السنوية في إثيوبيا، تستفيد البلاد من 117 مليار متر مكعب في الزراعة، و352 مليار متر مكعب في المراعي (يساهم جزء منها في الإنتاج الحيواني)، و211 مليار متر مكعب في الغابات للتنوع البيولوجي والسياحة والأخشاب. بينما يتجه 105 مليار متر مكعب إلى تغذية المياه الجوفية المتجددة، بالإضافة إلى 25 مليار متر مكعب في المياه السطحية التي تبقى في البحيرات والمجاري المائية داخل الدولة. بينما تغادر البلاد 126 مليار متر مكعب من المياه المتبقية من خلال الأنهار العابرة للحدود (97 مليار متر مكعب) ومن خلال فواقد البخر (29 مليار متر مكعب). إن كمية صغيرة من هذه الإمكانات الهائلة للموارد المائية المتجددة هي التي تدعم أكثر من 100 مليون شخص من السكان الإثيوبيين بالمياه المنزلية والري التكميلي والمياه للاستخدامات الصناعية وغيرها. وتظل الموارد المائية المتجددة المتبقية موجودة داخل الدولة ومتاحة للاستخدام السنوي ولصالح الأجيال القادمة، حتى مع تجنب المساس بـ 97 مليار متر مكعب من التدفقات العابرة للحدود التي بالكاد تدعم السكان الحاليين في البلدان المجاورة، وخاصة مصر.
ووفقًا لتحليل ترسيم مستجمعات المياه، يتلقى حوض نهر النيل، وهو واحد من أحواض الأنهار العديدة في إثيوبيا، ما متوسطه 450 مليار متر مكعب من الأمطار من 936 مليار متر مكعب من الأمطار تسقط على مستوى البلاد.

مقارنة بين نصيب الفرد من الموارد المائية المتجددة في إثيوبيا ومصر:

ترتبط التنمية المستدامة ارتباطًا وثيقًا بتوافر الموارد المائية العذبة المتجددة. بغض النظر عن الموارد المالية التي تستثمرها الدولة في تطوير موارد بديلة وغير تقليدية، لا يوجد مورد مائي يمكن أن يحل بكفاءة محل الموارد المائية العذبة المتجددة الطبيعية المستدامة. وبمقارنة الموارد المائية المتجددة المتاحة لإثيوبيا مقابل مصر، نرى أن إثيوبيا تتلقى في المتوسط حوالي 936 مليار متر مكعب في السنة من الأمطار المتجددة. ومع طرح فواقد البخر والمياه العابرة للحدود الخارجة من الدولة، يتبقى 810 مليار متر مكعب من الموارد المائية المتجددة متاحة وتساهم في الزراعات المطرية، والإنتاج الحيواني، والمياه السطحية، وكذا تغذية المياه الجوفية (مصدر متجدد مهم للمياه المنزلية والري التكميلي). تتجاوز هذه المياه إلى حد بعيد الطلب على المياه في إثيوبيا التي تضم حوالي 100 مليون نسمة. وفي المقابل، تستخدم مصر 55.5 مليار متر مكعب/السنة من مياه حوض النيل لجميع استخداماتها، بما في ذلك الزراعة المروية والاستخدامات المنزلية والصناعية. ومع إضافة الكمية الصغيرة من الأمطار المتقطعة والتي تبلغ 1.5 مليار متر مكعب إلى مياه النيل، فإن الموارد المائية المتجددة في مصر تصل إلى 57 مليار متر مكعب في السنة. يتم إعادة استخدام هذه المياه وإعادة تدويرها عدة مرات لتلبية جزء من احتياجات مصر المائية المطلوبة لأكثر من 100 مليون شخص. كما يتعين على مصر أن تستثمر في إعادة استخدام الصرف الزراعي، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، وتحلية مياه البحر، واستيراد الغذاء من أجل سد الفجوة في الطلب على المياه.

توفر الموارد المائية المتجددة السنوية في مصر ما يمكن أن نعتبره نصيب للفرد يقدر بحوالي 570 متر مكعب للفرد في السنة من الموارد المائية المتجددة، وهو ما يقل عن حد الفقر المائي البالغ 1000 متر مكعب للفرد سنويًا. من ناحية أخرى، توفر الموارد المائية المتجددة في إثيوبيا حوالي 8100 متر مكعب للفرد في السنة من الموارد المائية المتجددة. فقد خلق الاختلاف الكبير في الظروف المناخية الطبيعية بين دول المنبع والمصب في حوض النيل هذا الاختلاف الكبير بين وفرة المياه في إثيوبيا وندرة المياه في مصر. كما خلقت الظروف الهيدرولوجية الطبيعية المماثلة نهر النيل العابر للحدود والذي ينبع في المرتفعات الإثيوبية والهضبة الاستوائية ويشق مجراه عبر الصحاري الجرداء في مصر. تكيفت مصر مع هذه الظروف القاسية، واستطاعت أن تعتمد على نهر النيل لسنوات متغلبة على تحديات ندرى المياه دون مشاكل. لكن ما يمكن أن يخلق المشاكل هو محاولة الدول الغنية بوفرة المياه أن تنتهك أو تنال من الموارد المائية الشحيحة في مصر.

توضح المياه الافتراضية المزيد عن مسألة المياه واستخداماتها في إثيوبيا:
من جانب الاحتياجات المائية، يعتبر قطاع الزراعة والثروة الحيوانية أكبر قطاع مستهلك المياه. إذا أجرينا مقارنة سريعة حول “المياه الافتراضية” (المياه المضمنة في المنتجات) في واردات وصادرات إثيوبيا ومصر والإنتاج المحلي في هذا القطاع، فيمكن استنتاج الكثير حول حالة المياه وتوفر الموارد المائية في البلدين. يعتمد التحليل التالي على بيانات موقع waterfootprint.org وبيانات منظمة الأغذية والزراعة حول الإنتاج الزراعي والحيواني والصادرات والواردات.

يتعين على مصر استيراد كمية كبيرة من طعامها بسبب ندرة المياه. في عام 2012، عندما تم الشروع فعليا في بناء سد النهضة، استوردت مصر منتجات زراعية ولحوم تعادل حوالي 48 مليار متر مكعب من “المياه الافتراضية” بتكلفة تزيد عن 12 مليار دولار. أما إثيوبيا، التي يبلغ عدد سكانها المماثل لمصر حوالي 100 مليون نسمة، استوردت في عام 2012 حوالي 5.7 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية في الزراعة ومنتجات اللحوم بتكلفة 1.2 مليار دولار، وهو العُشر (1/10) من تكلفة مصر من الواردات من المواد الغذائية. من ناحية أخرى، قامت إثيوبيا بتصدير أكثر من 6.4 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية في المنتجات الزراعية والثروة الحيوانية، وهو ما يزيد عن 5.2 مليار متر مكعب تمثل صادرات مصر من المياه الافتراضية من الزراعة والثروة الحيوانية في نفس العام. وبلغت قيمة هذه الصادرات الإثيوبية حوالي 2 مليار دولار، وهو ضعف قيمة الصادرات الزراعية المصرية المقدرة بنحو مليار دولار في ذلك العام.

وقدرت المياه الافتراضية المضمنة في الزراعة المحلية السنوية والإنتاج الحيواني في إثيوبيا في عام 2012 بحوالي 124 مليار متر مكعب، جاءت بشكل رئيسي من مساهمة الأمطار المباشرة (المياه الخضراء). وفي المقابل، في مصر، قدرت المياه الافتراضية المضمنة في الزراعة المحلية والإنتاج الحيواني في عام 2012 بحوالي 78 مليار متر مكعب جاءت بشكل رئيسي من مياه الري (المياه الزرقاء) والمياه المعاد استخدامها والأعلاف المستوردة.

لا يمكن الاحتفاظ بالكعكة وتناولها في نفس الوقت!!

بمقارنة المياه الافتراضية في الواردات والإنتاج المحلي بين مصر وإثيوبيا، وهو ما يعكس طلب كل بلد على المياه في هذا القطاع، نرى أن المياه الافتراضية السنوية لمصر في الزراعة والثروة الحيوانية تبلغ 126 مليار متر مكعب، في حين أن المياه الافتراضية السنوية لإثيوبيا في هذا القطاع تبلغ حوالي 129 مليار متر مكعب. على الرغم من أن الدولتين تتساويان في استخدام نفس الكمية تقريبًا من المياه لتلبية احتياجات السكان ذات الحجم نفسه في هذا القطاع، إلا أن الفرق هو أن إثيوبيا توفر 95 ٪ من هذه المياه من مواردها المائية المتاحة (124 مليار متر مكعب)، في حين أن مصر يمكن أن توفر 37 ٪ فقط من هذه المياه من مواردها المائية المتاحة (47 مليار متر مكعب) والتي تنشأ بشكل رئيسي في إثيوبيا. وعلاوة على ذلك، اضطرت مصر إلى إنفاق أكثر من 12 مليار دولار لتوفير 38٪ من هذه الاحتياجات من المياه من خلال الواردات، والاستثمار أكثر لتوفير 25٪ من المياه المتبقية من هذه الاحتياجات المائية من خلال إعادة استخدام الصرف الصحي والمياه المعالجة وتنمية المياه الجوفية واستيراد العلف. والآن، فإن نسبة 37٪ ومعظم 25٪ من موارد مصر المائية المتاحة للزراعة والثروة الحيوانية معرضة للخطر بسبب سد النهضة، وأنشطة إثيوبيا الأحادية في منابع النيل، واستمرار الرسائل الإثيوبية حول حريتها في استخدام مياه نهر النيل.

يعكس التحليل السابق وفرة المياه في إثيوبيا والتي تسمح لها بزراعة طعامها على عكس مصر، وأيضا المياه اللازمة لتصدير مياه افتراضية أكثر مما تستطيع مصر تصديره لتوفير بعض الأموال اللازمة لاستيراد منتجات غذائية أقل تكلفة. عاش كلا البلدين على تبعيات متنوعة لأنواع مختلفة من المياه، حيث تعتمد إثيوبيا في أعلى النهر على المياه الخضراء من الأمطار المباشرة، بعضها داخل حوض النيل، بينما تعتمد مصر على مجرى النهر فقط وعلى المياه الزرقاء من نهر النيل نفسه. علاوة على ذلك، تضطر مصر بوصفها دولة تعاني من شح مائي أن تنفق أموالًا أكثر من دولة ذات وفرة مائية مثل إثيوبيا لتوفير احتياجاتها الغذائية.
إنها قوة الطبيعة التي أدت إلى تبعيات متنوعة كاعتماد دول المنبع على المياه الخضراء في مقابل اعتماد دول المصب على المياه الزرقاء. ليس من العدل أن يكون لديك كميات وفيرة من المياه الخضراء، ولا تزال تتطلع إلى كميات المياه الزرقاء المحدودة التي يعتمد عليها الجيران! “لا يمكنك الاحتفاظ بالكعكة وتناولها في نفس الوقت!” يجب ألا تتجاهل الدول المشاطئة، داخل “حوض النهر المشترك”، “المياه الخضراء” المتجددة الخاصة بها وإمكانات الأمطار الوفيرة داخل الحوض، والتنازع حول الاستخدامات القائمة للبلدان الأخرى من “المياه الزرقاء” في “مجرى النهر”، خاصة إذا كانت تمثل قطعة الكعكة الوحيدة لهم!

 

عندما تتحول وفرة المياه لدى دول المنبع إلى هيمنة مائية:

بالنظر إلى وفرة المياه في إثيوبيا، وموقعها الجغرافي الذي يجعلها مصدر لـــــ85٪ من الموارد المائية المتجددة الوحيدة في مصر، وقرارها الأحادي الجانب لبناء سد النهضة على واحد من أكبر روافد نهر النيل، ومحاولاتها المستمرة لتجنب القيام بدراسات تقييم اَثار السد، واتباعها لاستراتيجية المماطلة حول التوصل إلى اتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل السد؛ كل هذا يشير إلى هدف أثيوبي مختلف من وراء بناء سد النهضة يكمن في تحقيق “هيمنة مائية” وليس مجرد الحصول على “طاقة كهرومائية”!

**********************************************

*د. خالد محمود أبوزيد : المدير الإقليمي لبرنامج الموارد المائية – مركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا “سيدارى”، والمدير الإقليمي للبرامج الفنية بالمجلس العربي للمياه، وأستاذ الموارد المائية، ومهندس محترف معتمد.
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!