آفاق بيئية : جيفري د. ساش*
نيويورك ــ أخيرا، أصبح حل تغير المناخ الناجم عن أنشطة بشرية مرئيا بوضوح. فبفضل التقدم السريع في تكنولوجيات الطاقة الخالية من الكربون، وفي أنظمة الغذاء المستدامة، بات بوسع العالم واقعيا أن ينهي الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي بحلول منتصف القرن بتكلفة تراكمية ضئيلة أو معدومة، وبفوائد حاسمة تعود على السلامة والصحة. العقبة الرئيسية هنا تتلخص في الكسل والتقاعس عن العمل: إذ يستمر الساسة في تفضيل صناعة الوقود الأحفوري والزراعة التقليدية لأنهم في الأساس جهلاء أو مرتشون.
الواقع أن أغلب الانحباس الحراري الكوكبي، والعبء الهائل المترتب على التلوث، ناتج عن إحراق الوقود الأحفوري: الفحم، والنفط، والغاز. المصدر الرئيسي الآخر للدمار البيئي هو الزراعة، بما في ذلك إزالة الغابات، والإفراط في استخدام الأسمدة، وانبعاثات غاز الميثان المرتبطة بتربية الماشية. يجب أن يتحول نظام الطاقة من الوقود الأحفوري الشديد التلويث إلى مصادر طاقة نظيفة خالية من الكربون مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، ويجب أن يتحول النظام الغذائي من حبوب العلف والماشية إلى منتجات أكثر صحة وتغذية. وهذا التحول المجمع في الطاقة والغذاء من شأنه أن يدفع صافي الانبعاثات من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي إلى الانخفاض إلى الصِفر بحلول منتصف القرن، ثم يصبح سلبيا صافيا، مع امتصاص الغابات والتربة لثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
من المرجح أن يضمن الوصول إلى صافي الانبعاثات صِفر بحلول نصف القرن، ثم الوصول إلى انبعاثات سلبية، تحقيق هدف الحد من الانحباس الحراري الكوكبي بحيث لا يتجاوز الزيادة 1.5 درجة مئوية نسبة لدرجة حرارة الأرض قبل الصناعة. المزعج في الأمر أن زيادة الحرارة الكوكبية بلغت 1.1 درجة مئوية بالفعل، كما ترتفع درجة الحرارة الكوكبية بنحو 0.2 من الدرجة المئوية كل عقد من الزمن. ولهذا السبب يتعين على العالم أن يبلغ مستوى صافي الانبعاثات صِفر بحلول عام 2050 في أبعد تقدير. إن التحول نحو الطاقة النظيفة من شأنه أن يمنع مئات الآلاف من الوفيات كل عام بسبب تلوث الهواء، والتحول إلى أنظمة غذائية ومستدامة بيئيا كفيل بمنع نحو عشرة ملايين وفاة كل عام.
الآن، أصبح الانتقال إلى الطاقة النظيفة في حكم الممكن في مناطق العالم كافة، وذلك نظرا لانخفاض تكاليف الطاقة الشمية وطاقة الرياح، والاختراقات في أساليب تخزين الطاقة. والآن أصبح إجمالي تكاليف أنظمة الطاقة المتجددة، بما في ذلك النقل والتخزين، معادلا تقريبا للوقود الأحفوري. ومع ذلك لا تزال أشكال الوقود الأحفوري تحصل على تفضيلات الحكومة من خلال إعانات الدعم، نتيجة للضغوط المتواصلة من قِبَل شركات الفحم والنفط الكبرى، والافتقار إلى التخطيط للبدائل المتجددة.
تتلخص الخطوة الأساسية في زيادة هائلة في توليد الطاقة من المصادر المتجددة، وخاصة الرياح والطاقة الشمسية. وسوف يتسنى لنا كهربة بعض استخدامات الطاقة، مثل النقل بالسيارات وتدفئة المنازل، بشكل مباشر. وسوف تعتمد استخدامات أخرى ــ في الصناعة، والشحن، والطيران، والنقل بالشاحنات ــ على الوقود النظيف المنتج باستخدام الكهرباء المتجددة. في الوقت ذاته، ينبغي للمزارع أن تتحول نحو الأغذية النباتية.
إن استمرار آسيا في بناء محطات توليد الطاقة بإحراق الفحم، جنبا إلى جنب مع إزالة الغابات بلا انقطاع في جنوب شرق آسيا، وأفريقيا، والبرازيل، يعرض مناخنا، وهواءنا، وتغذيتنا لخطر هائل وغير ضروري على الإطلاق. وفي الولايات المتحدة، يضيف تشجيع إدارة ترمب لاستخدام الوقود الأحفوري، على الرغم من إمكانات أميركا الهائلة في مجال الطاقة المتجددة، إلى العبثية الصارخة. وكذا يفعل النداء المتجدد الذي يطلقه رئيس البرازيل الشعبوي الجديد، جايير بلوسونارو، لتطوير وتنمية ــ وهذا يعني إزالة ــ غابات منطقة الأمازون.
ما العمل إذن؟
تتلخص الخطوة لأكثر إلحاحا الآن في تثقيف الحكومات وشركات الأعمال. ينبغي للحكومات الوطنية أن تعكف على إعداد تقييمات هندسية فنية لإمكانات بلدانها في ما يتصل بإنهاء الانبعاثات من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي بحلول منتصف هذا القرن. وينبغي للشركات والبنوك أن تفحص على وجه السرعة الحجة المقنعة تكنولوجيا لصالح استخدام الطاقة والأنظمة الغذائية النظيفة الآمنة.
تُظهِر دراسة جديدة مهمة أن كل منطقة في العالم تتمتع بإمكانية استخدام طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة الكهرومائية لإزالة الكربون من نظام الطاقة. فالدول التي تقع على خطوط عرض مرتفعة، مثل الولايات المتحدة، وكندا، ودول شمال أوروبا، وروسيا، تستطيع أن تستفيد من قدر أكبر نسبيا من طاقة الرياح مقارنة بالدول المدارية. وكل الدول يمكنها التحول إلى السيارات الكهربائية، وتشغيل الشاحنات، والسفن، والطائرات، والمصانع بوقود جديد خال من الكربون.
الواقع أن انتقال الطاقة على هذا النحو كفيل بخلق عدة ملايين من الوظائف أكثر من تلك التي ستفقد في صناعات الوقود الأحفوري. وسوف تنتهي الحال بحاملي أسهم شركات مثل إكسون موبيل وشيفرون التي ترفض الاعتراف بتحول الطاقة القادم إلى تحمل ثمن باهظ. وسوف تتحول استثماراتها الجارية في الوقود الأحفوري إلى أصول مهجورة في السنوات المقبلة.
ينبغي للحكومات ولجان المرافق أن تشترط أن تكون كل قدرات توليد الطاقة الجديدة خالية من الكربون تماما. ومع تقدم محطات توليد الطاقة التي تعمل بإحراق الوقود الأحفوري في العمر وإغلاقها، لابد أن تحل محلها محطات توليد الطاقة النظيفة على أساس تنافسي، على سبيل المثال من خلال مزادات الطاقة المتجددة. وينبغي للصين والهند على وجه الخصوص أن تكفا عن بناء محطات طاقة جديدة تعمل بإحراق الفحم في الداخل، كما ينبغي للدول المصدرة لرؤوس الأموال مثل الصين واليابان أن تتوقف عن تمويل محطات الطاقة الجديدة التي تعمل بإحراق الفحم في بقية دول آسيا، مثل باكستان والفلبين.
سوف تخوض شركات القطاع الخاص منافسة شرسة لخفض تكاليف شبكات الطاقة المتجددة، بما في ذلك توليد الطاقة، وتخزين الطاقة، والاستخدامات النهائية مثل المركبات الكهربائية، والتدفئة الكهربائية، والطهو، واقتصاد الهيدروجين الجديد. وينبغي للحكومات أن تحدد سقفا للانبعاثات، كما ينبغي للقطاع الخاص أن يتنافس من أجل تسليم حلول منخفضة التكلفة. ويتعين على الحكومات والشركات أن توحد جهودها في تمويل مشاريع البحث والتطوير الجديدة لدفع التكاليف إلى المزيد من الانخفاض.
ولا تختلف القصة عندما يتعلق الأمر باستخدامات الأراضي. فإذا كان بولسونارو يعتقد حقا أنه سيحقق طفرة اقتصادية برازيلية بفتح منطقة الأمازون لمزيد من إزالة الغابات لزراعة فول الصويا وإنشاء مزارع الماشية، فينبغي له أن يعيد التفكير. إن مثل هذا الجهد من شأنه أن يعزل البرازيل وأن يرغم شركات المواد الغذائية الكبرى، التي تواجه تهديد ردة الفعل السلبية الهائلة من قِبَل المستهلكين على مستوى العالم، على التوقف عن شراء المنتجات البرازيلية.
تسلك الأغذية الاستهلاكية سبيلا آخر. الخبر الكبير هنا هو أن شركة برجر كنج، في مشروع جديد مع شركة Impossible Foods، تتحرك نحو البرجر النباتي، الذي يشبه مذاقه البرجر المصنوع من اللحم البقري تماما، لكن الكيمياء الذكية التي تستخدم مكونات نباتية تسمح لعشاق البرجر بالاستمتاع بالمذاق الذي يحبونه بينما ينقذون كوكب الأرض.
من خلال تحويل أنظمة الطاقة والغذاء، يمكننا أن نستمتع بالطاقة المنخفضة التكلفة، ووجبات غذائية صحية ومُرضية، دون أن نخرب البيئة. والواقع أن أطفال المدارس الثانوية المضربين من أجل سلامة المناخ قاموا بواجبهم. ويتعين على ساسة مثل ترمب وبولسونارو أن يقوموا هم أيضا بواجبهم أو يبتعدوا عن الطريق.
عن : بروجيكت سنديكيت / ترجمة: إبراهيم محمد علي
*جيفري دي ساكس : أستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسة الصحية والإدارة في جامعة كولومبيا ، ومدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة وشبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة. تشمل كتبه “نهاية الفقر ، والثروة المشتركة ، وعصر التنمية المستدامة ، وبناء الاقتصاد الأمريكي الجديد” ، وآخرها “سياسة خارجية جديدة: ما وراء الاستثنائية الأمريكية”.