برايتون : بقلم جيرالد بلوم
أضحت العقاقير المضادة للميكروبات الموجودة حالياً تفقد فعاليتها شيئاً فشيئا. وإذا استمر هذا المنحى، فقد ينتهي بنا الأمر إلى تكرار الإصابة بالحالات المرضية قبل اكتشاف المضادات الحيوية، عندما كانت الأمراض المعدية قاتلة فتاكة.
إن مواجهة تحدي الميكروبات المقاومة للعقاقير سيكون صعباً لا محالة، إذ أنه لن يتطلب فقط استثمارات كبرى في البحث عن عقاقير جديدة مضادة للميكروبات وتطويرها، بل سيتطلب كذلك نظاماً للتحكم في العلاجات الجديدة وتقييدها من أجل المحافظة على فعاليتها. وكما هي الحال مع الاستجابة لظاهرة التغير المناخي، فإن أي استراتيجية فعّالة ستتطلب تنسيقاً دوليا. ولابد على الأخص من التوفيق بين احتياجات شركات الأدوية مع احتياجات الدافعين الحكوميين وفقراء العالم.
من المؤكد أن إشراك الفقراء سيكون أمراً حيوياً لأي مجهود يُبذل في هذا الصدد، إذ تعد الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل مصدراً أساسياً للكائنات الحية المقاومة للعقاقير. فازدحام أماكن السكن، وسوء حالة الصرف الصحي، وضعف أجهزة المناعة، سواء نتيجة لسوء التغذية أو عدوى مزمنة مثل فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، كلها عوامل توفر أرضاً خصبة للعدوى. وغالباً ما يُساء استخدام المضادات الحيوية، أو أنها قد تكون رديئة، الأمر الذي يعطي البكتيريا الفرصة لتكوين مقاومة. كما تُستخدم كميات كبيرة من المضادات الحيوية في تربية الحيوانات. في الوقت ذاته، فإن البنية التحتية للنقل المطورة بشكل كبير ــ والتي تربط بين المناطق الريفية والحضرية وبين الدول ــ تعني أن الجينات المقاومة تصير بسرعة جزءاً من وحدة عالمية مجمعة.
في كثير من الدول المعرضة لمخاطر الأمراض، تعجز أنظمة الرعاية الصحية الحكومية عن تلبية الطلب عليها، ومن ثم تحاول مجموعة من مقدمي الخدمات الصحية جسر هذه الهوة. وتتنوع هذه المجموعة بين متخصصين في الطب، وآخرين غير متخصصين رسمياً يعملون غالباً خارج الإطار التنظيمي. لكن لهذه الأنظمة المختلطة فوائد. ففي بنجلاديش مثلا، انتهت دراسة إلى أن المضادات الحيوية التي يقدمها ما يسمون بـ”أطباء القرية”، الذين يمارسون عملهم غالباً داخل أكشاك في الأسواق، ساهمت في خفض معدلات الوفيات الناجمة عن تسمم ما بعد الولادة بين النساء والالتهاب الرئوي بين الأطفال. إلا أنه توجد أيضاً أدلة كبيرة على تنوع جودة العقاقير المقدمة، وأنه يتم تعاطيها بشكل متكرر دون ضرورة. وفي أغلب الأحيان، يعزف المرضى عن شراء جرعة علاجية كاملة.
أحد التدابير التي يمكن تطبيقها حيال ذلك سنّ وتطبيق قوانين تقصر بيع المضادات الحيوية على تلك الموصوفة في التذاكر الطبية. لكن قد يؤدي هذا إلى التضييق الشديد على الفقراء وتقييد قدرتهم على الحصول على المضادات الحيوية، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى زيادة معدلات الوفيات الناجمة عن العدوى، ما يجعل هذا الإجراء غير مقبول سياسيا، وبالتالي صعب التطبيق. بيد أنه يوجد بديل أفضل يتمثل في تطوير استراتيجيات جديدة لتحسين علاجات المضادات الحيوية التي تُقدم من خلال القنوات غير الرسمية.
وكبداية، ينبغي أن يكون هناك استثمار لتجميع بيانات رصد موثوقة عن العقاقير الفعالة ضد الأمراض المعدية الشائعة. ويجب أن تتضمن إرشادات العلاج هذه المعلومات لإعطائها لكل مقدمي المضادات الحيوية.
في الوقت ذاته، لابد من إتاحة المضادات الحيوية عالية الجودة بأسعار زهيدة. كما يجب تحديد المنتجات المزيفة ورفعها من الأسواق، إضافة إلى تكوين شراكة تنظيمية بين الحكومات والقطاع الدوائي ومجموعات من المواطنين لمراقبة الجودة. كذلك يجب الإبقاء على الأسعار منخفضة من خلال الشراء بالجملة. وقد يكون الدعم الحكومي ضرورياً في بعض الحالات.
وينبغي أن تُستكمل تدابير خفض الأسعار بجهود للتحذير من الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية. ومن الأفكار التي يمكن أن تساعد على تبسيط قرارات العلاج ابتكار طرق لتغليف العقاقير، كتقديم جرعات علاجية كاملة من مجموعات العقاقير المناسبة. كذلك قد يساعد تطوير تقنيات تشخيصية منخفضة التكلفة في تقليل الحاجة إلى تقديم العلاج على أساس الأعراض وحدها.
أما التحدي الأكبر فيتلخص في تشجيع مقدمي المضادات الحيوية على تغيير سلوكهم. وسيتطلب ذلك اتخاذ تدابير كالحصول على الاعتماد، وتعديل آليات الدفع، وإشراك المنظمات الوسيطة لتقديم الدعم الفني ومراقبة الأداء. ويمكن أن تشمل هذه الكيانات المنظمات غير الحكومية، والمنظمات الدينية، ومتعهدي المشاريع الاجتماعية، والشركات الموزعة للعقاقير. ولأنه من المستبعد أن تكون هذه الأنشطة مستدامة تجاريا، فإنها ستتطلب دعماً من الحكومات والمؤسسات الخيرية، وربما منتجي العقاقير.
في الوقت نفسه، يجب أن يحصل العامة على معلومات موثوقة ونصائح بشأن الاستخدام الصحيح للمضادات الحيوية. وتشتد الحاجة إلى مثل هذا الإجراء في البلدان التي يعتمد مواطنوها في الأغلب على مواردهم الخاصة للتعامل مع المشكلات الصحية.
إن تنفيذ تغيير شامل في منظومة استخدام المضادات الحيوية سيتطلب إنشاء تحالفات قومية وعالمية. ويجب أن يكون أحد الأهداف الرئيسة تأسيس معايير سلوكية أساسية للعاملين في المجال الصحي وشركات الأدوية، بحيث تراعي احتياجات المرضى والمجتمعات. وستحتاج الحكومات إلى بناء قدراتها لأداء دور فعال في هذه العملية، كما سيتوجب على الشركات التي تطور وتنتج وتوزع الأدوية والتقنيات التشخيصية أن تساهم بصورة فعالة في البحث عن حلول تعاونية. وإذا تمكنا من إدارة قضية المضادات الحيوية بطريقة عادلة وقابلة للاستمرار، فساعتها فقط نصبح قادرين على الاستفادة من هذه العقاقير إلى أقصى درجة.
المصدر : http://www.project-syndicate.org
جيرالد بلوم هو طبيب واقتصادي في مجال الصحة في معهد دراسات التنمية في جامعة ساسكس.