وجعلنا من الماء كل شيء حي
آفاق بيئية : الدكتور أحمد الطلحي
الماء كان دائما ولا يزال وسيبقى مادة حيوية، بل أصبح بسبب الندرة سلعة استراتيجية. ويقال أن حروب المستقبل ستكون حول الماء بالإضافة
إلى الطاقة والممرات البحرية. وبالرغم من الأهمية الوجودية للماء إلا أن الاهتمام من الناحية العملية لا يزال ضعيفا في بلداننا العربية والإسلامية التي تعد من أكثر مناطق العالم فقرا للماء بل إنها بدأت فعلا تلج مرحلة العطش والخصاص الكبير.
– أهمية الماء الوجودية:
قال تعالى في وصف أهمية الماء : “وجعلنا من الماء كل شيء حي” (الأنبياء: 30). هذه الآية نمر عليها مرور الكرام، ونكرر ذكرها كلما تحدثنا عن أهمية الماء، إلا أننا لا نستوعب معانيها جيدا. ومعناها بكل بساطة: الماء يساوي الحياة أو هو الحياة فبدونه لا تستمر الحياة، ولكن ليس هذا فحسب، فللماء عدة عوامل للحياة:
– الماء من المكونات الغذائية الرئيسية لكل الكائنات الحية، طبعا مع تفاوت في الكميات والخصائص التي يحتاجها كل نوع وكل صنف.
– 70 في المائة من مكونات الإنسان والعديد من الكائنات الحية هي عبارة عن ماء، وهي نفس النسبة تقريبا نجدها في كوكب الأرض ف72 بالمائة من الأرض عبارة عن مسطحات مائية على شكل بحار ومحيطات وبحيرات مالحة وعذبة وأنهار، وهذا إعجاز رباني لم ينتبه إليه الكثير من الناس، كأن الله سبحانه وتعالى يشبه لنا كوكب الأرض بذواتنا ويدعونا للاعتقاد بأن الأرض هي أيضا مجازا كائن حي مثل باقي الكائنات الحية، وفعلا هذا الوصف بدأ ينتشر بين العلماء والمختصين فيصفون الأرض بالكوكب الحي.
– الماء أصل الحياة بالنسبة للإنسان وغير الإنسان، قال تعالى: “فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ” (الطارق: 5-7). بالنسبة للنباتات يقوم الماء كما الرياح بنقل البذور الذكورية وينقلها إلى البذور الأنثوية ليقع التلاقح، ولتنتقل النباتات إلى مناطق بعيدة أيضا.
– الماء أيضا هو محيط بيئي وإطار حياتي للعديد من الكائنات مثل الأسماك والحيتان والطحالب والكائنات المجهرية، سواء في المياه المالحة أو المياه العذبة. على أنه حينما نتحدث في العموم وفي أصل الأشياء فالماء هو مادة واحدة سواء كان عذبا أم مالحا، والماء عموما أصله من البحر ويعود في النهاية إلى البحر.
– الماء أيضا له دور كذلك في تكوين التربة ونقلها من مناطق إلى أخرى، فهو يقوم بتعرية الصخور وينقل الترسبات ليرسبها في أماكن تكون بعيدة بآلاف الكيلومترات عن مصدرها.
– الماء مادة مطهرة للبدن وللأشياء والأماكن والأجواء. بل هو المادة المطهرة رقم واحد. ولذلك فرض علينا شرعا الوضوء والاغتسال. فبالنسبة للوضوء فلا تقبل الصلاة بدون أن يكون المصلي على وضوء،قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (المائدة: 7)، ولقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك” (أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة)، كما أنه يستحسن أن يكون المؤمن على وضوء طول الوقت فسلاح المؤمن وضوءه كما يقال. أما بالنسبة للغسل فقد أمرنا للغسل مرة كل أسبوع على الأقل وذلك يوم الجمعة كما أمرنا به للتطهر من الجنابة، بالإضافة إلى الاغتسال في العيدين.
– للماء فوائد نفسية أيضا: عندما يشعر الإنسان بالقنوط والكآبة والتعب، ويقوم بالاغتسال أو الوضوء أو حتى برش القليل من الماء على وجهه أو رأسه، ينتعش ويتجدد نشاطه ويشعر براحة نفسية. ولذلك كان الوضوء وسيلة لمعالجة الغضب، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ”(رواه أبو داود وغيره).
الخلاصة أن للماء منافع كثيرة، قد يصعب إحصاؤها وحصرها، وهنا قد يقول قائل أنه إذا وقفت الآية الكريمة عند “وجعلنا من الماء كل شيء” لكانت كافية، ولا داعي لكلمة حي، لكن عبارة “كل شيء” تعني الإيجاد من الماء أي أن أصل وجود الكائنات الحية هو من الماء، أما كلمة حي فتعني أنه السبب في استمرار الحياة فبدونه تتوقف الحياة ويقع الموت.
– الماء في حضارتنا الإسلامية:
اعتنت الحضارة الإسلامية عموما والحضارة المغربية خصوصا بالماء كثيرا، ليس فقط لأن أغلب البلاد الإسلامية ومنها المغرب يقع في المناطق الجافة أو شبه الجافة ولكن لعناية الدين الإسلامي الحنيف بالماء، فمثلا الاقتصاد في الماء ليس سببه هو قلته ولكن بسبب نهي الإسلام عن التبذير والإسراف عموما “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين” (الأعراف: 29). حتى لو كان استعمال الماء للعبادة وكان موجودا بوفرة، “فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد. فقال: أفي الوضوء سرف؟، قال: نعم وإن كنت على نهر جار” (رواه ابن ماجه).
ويتجلى اهتمام المغاربة بالماء في المجالات التالية:
– عند اختيار موقع وموضع بناء المدن الجديدة، كان المسلمون يضعون عدة معايير لذلك، على رأسها وفرة المياه العذبة، سواء بوجود واد جار أو عيون دائمة الجريان أو فرشة مائية مهمة تمكن من حفر الآبار الكافية.
– المغاربة كانوا سباقين في تجهيز المدن بالشبكات المائية قبل المدن الأوروبية، سواء شبكة الماء الصالح للشرب أو شبكة التطهير السائل. وكان لا يقع أي اختلاط أو تسرب للمياه العادمة على المياه الصالحة للشرب.
– كل البنايات، خصوصا المساجد والمدارس، كانت توجد بها نافورات وسقايات، بالإضافة إلى السقايات العمومية التي تكون منتشرة في الدروب والأزقة.
– كانت في المغرب ولا تزال تقنية فريدة في جلب المياه تسمى بالخطارات، وهي ظهرت في البداية في بلاد الفرس ثم انتقلت إلى الأندلس فالمغرب. وتنتشر في مناطق الواحات خصوصا واحات تافيلالت ودادس، وكذلك في بعض المدن خصوصا مراكش. وهي عبارة عن قنوات باطنية تنقل المياه من مناطق الوفرة إلى المناطق الفقيرة بالمياه لمسافات طويلة.
– المغاربة تفننوا في أنظمة الري الزراعي وفي ابتكار تقنيات وأدوات مختلفة لقياس توزيع المياه على المزارعين، ووضعوا لذلك أعرافا ووظفوا للإشراف على ذلك أمناء وعمال. وكتب النوازل المغربية مليئة بالأحكام والاجتهادات القضائية التي كانت تبث في قضايا المنازعات حول المياه.
– المظاهر الجمالية للماء:
نحن نستهلك الماء يوميا بكميات مختلفة ولأغراض مختلفة، إلا أننا لا نتمتع فعلا بهذه النعمة العظيمة، وهذا حالنا خصوصا في الوقت الحاضر لكثرة الانشغالات وبسبب ضغوط الحياة. وهذا ما دفع أحد المفكرين الغربيين لتنبيه الناس إلى أهمية التمتع بالحياة من خلال إعمال حواسنا وإطالة التذوق والنظر حتى تحصل راحة نفسية عند الاستهلاك، بمعنى أن يحصل تمتع نفسي مع التمتع المادي، وأطلق على هذا الأمر مفهوما سماه Art de vivre أي فن الحياة وأنا أفضل أن أترجمه ب”فن التمتع بالحياة”. والمؤمن أولى من غيره بالتمتع بنعم الله، ولكن يجب عليه التفكر في هذه النعم، والتفكر في الكون ومخلوقات الله عبادة، وينبغي أن يحدث ذلك قبل وخلال وبعد الاستهلاك والتمتع بها.
وإذا أردنا حصر مظاهر الجمال في الماء، ربما قد نعجز، وسبحان الله فالماء هو المادة الوحيدة التي يمكن أن نحس بجماليتها بحواسنا الخمس:
– حاسة البصر: رؤية المناظر الرائعة للبحر والبحيرات ولجريان المياه العذبة وتدفقها؛
– حاسة اللمس: الشعور بالانتعاش عند ملامسة الماء للجسد؛
– حاسة الذوق: التمتع بتذوق الماء البارد أو الدافئ على شكل مشروب؛
– حاسة السمع: الشعور بالراحة النفسية عند الاستماع لخرير الماء العذب ولصوت أمواج البحر؛
– حاسة الشم: شم نسيم البحر.
– الكيفية المثلى للحفاظ على الماء:
إذا أردنا أن نعرف أهمية الماء في حياتنا ما علينا إلا أن نتذكر ما نعانيه عندما ينقطع الماء عن المنازل، وكيف نعمد إلى الاقتصاد فيه وعدم الإسراف في استهلاكه، ولكن سبحان الله بعد ساعة واحدة من ذلك نعود لعاداتنا السيئة. والسبب في ذلك يرجع إلى انعدام المسؤولية وضعف الوازع الديني والأخلاقي عموما، وإلى ضعف الوعي بالموضوع، وإلى غياب سياسات واستراتيجيات واضحة لدى الدولة بكل مفاصلها ومؤسساتها تعمل على إدماج الأفراد والأسر في الاستهلاك المستدام للماء.
والاستهلاك المستدام لكل الموارد الطبيعية والماء في مقدمتها، ينبغي أن يكون بحسب الحاجة وما زاد عن الحاجة هو إسراف وفساد في الأرض، فالإنسان مستخلف في هذه الأرض، والله سخر الكون له لكي يعيش فيه ومنه لا أن يعبث فيه.
أما عن طرق وأساليب الاستعمال المستدام للماء فهي كثيرة، وعلى الإنسان أن يجتهد أكثر في ذلك، ولكن في الغالب لا تخرج عن مبدأي إعادة الاستعمال والاقتصاد في الاستهلاك:
– إعادة الاستعمال: الماء سبحان الله هو يكاد يكون المادة الوحيدة التي يمكن استعمالها وإعادة استعمالها مرات عديدة، مثلما أنه المادة الوحيدة التي تغير من حالتها الفيزيائية بدون أن تغير من خصائصها الكيميائية، فهو يكون على شكل سائل وجامد وغازي. من أمثلة إعادة الاستعمال: إعادة استعمال ماء الغسيل في تنظيف أرضية المنزل وفي تفريغه في المراحيض عوض تفريغ الماء الصالح للشرب، سقي النباتات بمياه تنظيف الخضر والفواكه، إعادة استعمال مياه المسابح بعد معالجتها…
– الاقتصاد في الاستهلاك: وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: “كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة” (متفق عليه). وعن أبي ريحانة عن سفينة قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع” (سنن ابن ماجة). ونحن إذا ستعملنا الإناء والدلو (السطل بالعامية المغربية) فقط في وضوئنا وغسلنا سنوفر كميات كبيرة من الماء، فيكفي أن نعلم بأنه عند الاستحمام في الحوض (البانيو بالعامية المغربية) نستهلك 100 لترا من الماء وعند استعمال الرشاش (الدوش) 50 إلى 60 لترا، بينما تكفينا 30 لترا إذا استعملنا الدلو.
وأخيرا، لو استحضرنا بأن الاقتصاد في استعمال الماء هو طاعة لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وأن الماء هو الحياة والمحافظة على الماء من المحافظة على الحياة، فأكيد أن سلوكياتنا اتجاه الماء ستتحسن وأن المشاكل الناجمة عن ندرة الماء ستنحل.
مقال متميز استفدت من كلماته العلمية و السلوكية و التعبدية و العقدية .
نشكرك عليه أخي الدكتور أحمد الطلحي.
جزاك الله خيرا.