بقلم عبد الهادي النجار
أظهرت الصور الفضائية التي وزّعتها مؤخراً وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) تراجعاً كبيراً لمنسوب المياه في بحر آرال، بحيث أن الحوض الشرقي الذي يمثّل معظم المساحة السطحية للبحر قد جفّ تماماً. وقد ذكّرتني هذه الصور بلقاء تلفزيوني أجرته معي إحدى القنوات الفضائية قبل نحو عشر سنين للحديث حول مظاهر وأسباب التدهور البيئي في حوض آرال.
وكان مما طرحته في ذلك اللقاء أن الجهود التي تبذلها كازاخستان في إدارة المياه وبناء السدود قد تساهم في الحفاظ على الوضع المائي للبحر في أجزائه الشمالية، في حين أن المؤتمرات والندوات التي يتم تنظيمها من قبل أوزبكستان لن تكون لها أية آثار إيجابية على البحر في أجزائه الجنوبية، ما لم تترافق مع عمل ميداني يتجلى في تعديل الخطط الزراعية المستنزفة لمياه نهر أموداريا المغذي للبحر، وبشكل خاص ما يتصل بزراعة القطن وحالة قنوات الري المتهالكة والاستخدام غير العقلاني للمبيدات والأسمدة.
ويبدو أن توقعاتي جاءت في محلها تماماً، فأجزاء البحر الشمالية التي تقع تحت سلطة كازاخستان ازدادت عمقاً ومساحةً بعد تحسين أنظمة الري على نهر سيرداريا وبناء سد دايك كوكارال الذي فصل الأجزاء الشمالية للبحر عن أجزائه الجنوبية. وكانت ثمرة هذه الجهود عودة مهنة صيد السمك للازدهار نتيجة انخفاض نسبة الملوحة وتكاثر الأسماك من جديد.
أما الأجزاء الجنوبية للبحر فتبخّرت في معظمها، حيث لم تعد أوزبكستان تبدي أية جديّة في استرجاع النظام الإيكولوجي للبحر الواقع تحت سلطتها، إلى درجة أن نهر أموداريا تم استغلاله بشكل كامل لري القطن ولم تعد تصل قطرة منه إلى بحر آرال. وقد بدأت الحكومة الأوزبكية بإجراء الأعمال الاستكشافية للتنقيب عن النفط في قاع البحر الجاف.
المثير للاهتمام أن تراجع بحر آرال، وما رافق ذلك من مشاكل بيئية تتمثل على وجه الخصوص في التصحر وعواصف الغبار التي تحمل بقايا الأسمدة والمبيدات وفقدان الموائل للأنواع الحيّة، كان أمراً متعمّداً، حتى أن عدداً كبيراً من قادة العلم والسياسة في الاتحاد السوفييتي السابق كانوا ينظرون إلى البحر على أنه “خطأ ارتكبته الطبيعة”، وأن وجوده هو مضيعة للموارد المائية التي يجب استغلالها في زراعة القطن.
إن سوء إدارة الموارد المائية، أو بتعبير أصح “الإدارة المائية غير المستدامة”، إلى جانب تراجع الهطولات المطرية وانتشار الجفاف كأحد مظاهر التغيّر المناخي إقليمياً وعالمياً، تلعب مجتمعةً دوراً حاسماً في انحسار المسطّحات المائية الكبرى في أكثر من مكان على كوكبنا الأزرق. وتؤدي التباينات بين المجتمعات المستفيدة من هذه المسطحات، وتعارض مصالحها، إلى استنزاف الموارد المائية المغذّية لهذه المسطحات وتعميق مشاكلها البيئية بشكل متعمّد. وأترك للقارئ المهتم أن يتوسّع في البحث عن مساهمة جميع العوامل السابقة في انحسار بحر آرال في وسط آسيا، وانحسار البحر الميت في وادي الأردن، وانحسار بحيرة أورميا في إيران، وتجفيف المسطحات والبيئات الرطبة الأصغر كمنطقة الأهوار في العراق وبحيرة الحولة في فلسطين.
من المهم أن ننتبه أيضاً إلى أن الإدارة غير المستدامة للموارد المائية، التي تسببت في تراجع مناسيب ونوعية مياه هذه المسطحات، كانت بمعظمها في دول تتصف باقتصاديات موجّهة مركزياً يُفترض بخططها الحكومية السنوية أن تحقق شعارات كبرى، من بينها رفع مستوى الدخل الوطني في إطار حماية البيئة والحفاظ على استدامة الموارد الطبيعية. ولكن يبدو أن الشعارات شيء والواقع شيءٌ آخر!
في قصص القراصنة، غالباً ما يتم الحديث عن سفينة سوداء ذات أشرعة مهترئة أصابتها اللعنة، فاختفت مع بحّارتها في أعالي البحار وأصبح ظهورها المفاجئ لبعض السفن نذيراً بالسوء والشر. أمّا على أرض الواقع، فقد تجاوزنا إخفاء السفن إلى إخفاء بحار بأكملها. فما هو مقدار السوء والشر الذي سيلحق بنا نتيجة فعلتنا هذه؟
ينشر بالتزامن مع مجلة البيئة والتنمية