آفاق بيئية : دانيال ك. جاردنر
نورثامبتون، ماساتشوستس ــ يبدو أن الصين أصبحت عالقة بين ماض من الاعتماد على الوقود الأحفوري ومستقبل تمكنه الطاقة المتجددة. تُـوَلِّـد الصين اليوم 53% من الطاقة الـمُـنتَـجة بإحراق الفحم. وفي الوقت ذاته، تُـعَـد الصين جهة التصنيع والسوق الرائدة للألواح الشمسية، وتوربينات الرياح، والمركبات الكهربائية. الواقع أن قدرة الصين على تحرير نفسها من إدمانها الذي دام عقودا من الزمن على الفحم ستحدد ليس مستقبلها البيئي وحسب، بل وأيضا ــ وهو الأمر الأكثر أهمية ــ قدرة الأرض على الصمود في وجه الأزمة المناخية المتصاعدة.
بدأ قادة الصين يدركون الحاجة إلى التغيير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فقد جلبت سياسة “تحقيق النمو الاقتصادي بأي ثمن” قدرا عظيما من الرخاء، لكن الأضرار الجانبية التي لحقت بهواء الصين ومياهها تنامت إلى حد غير مقبول. وقد دعا أنصار حماية البيئة إلى “بناء حضارة إيكولوجية”، تجد فيها الطبيعة والبشرية توازنا متناغما. وعندما تولى الرئيس شي جين بينج السلطة في عام 2012، سارَعَ إلى تبني هذه القضية.
في تتابع سريع للأحداث، أعلنت الحكومة الصينية “الحرب على التلوث”، ووضعت خطط عمل منفصلة لمعالجة الهواء، والماء، والتربة، وخصصت تريليون دولار لتنظيف البيئة، وأغلقت محطات الفحم غير الفَـعّـالة، واستثمرت مئات المليارات من الدولارات في تطوير الطاقة المتجددة. كما جعلت التصنيع المحلي ومبيعات المركبات الكهربائية أولوية عالية، وابتكرت نظاما لمقايضة الكربون على مستوى البلاد.
الأمر المثير للقلق الآن بالنسبة إلى الصين وكوكب الأرض هو أن ذلك الزخم تحول الآن في الاتجاه المعاكس. الواقع أن استهلاك الفحم، الذي سجل انخفاضا ملموسا كل عام خلال الفترة من 2014 إلى 2016، ارتفع بشكل مضطرد منذ ذلك الوقت. ويصدق نفس الأمر على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، التي ازدادت بنسبة 1.5% إلى 1.7% حتى أثناء التباطؤ الذي أحدثته الجائحة في عام 2020.
يتعين على الصين أن تبذل قدرا أعظم من الجهد. خَـلـص تقرير فجوة الانبعاثات الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2019 إلى أن الحد من تأثير الانحباس الحراري الكوكبي بحيث لا يتجاوز ارتفاع درجات الحرارة 1.5 درجة مئوية نسبة إلى مستويات ما قبل الصناعة يتطلب خفض الانبعاثات العالمية بنحو 55% عن مستويات 2018 بحلول عام 2030. لكن الصين أضافت 38.4 جيجا واط جديدة إلى سعة الطاقة العاملة بإحراق الفحم في عام 2020، في حين خفضت بقية بلدان العالم صافي سعة طاقة الفحم بمقدار 17.2 جيجا واط.
الأسوأ من هذا أن هذه الزيادة ليست سوى البداية. فقد وافقت الحكومة الصينية على بناء 36.9 جيجا واط إضافية من الطاقة العاملة بإحراق الفحم، ليصبح الإجمالي قيد البناء اليوم نحو 88 جيجا واط. وهناك مقترحات لبناء 158.7 جيجا واط أخرى، مما يجعل إجمالي السعة الجديدة قيد الدراسة نحو 247 جيجا واط ــ أكثر من إجمالي السعة المثبتة في الولايات المتحدة والذي يبلغ 233.6 جيجا واط.
وربما يكون المزيد من بناء محطات توليد الطاقة في الطريق. تدفع مجموعات صناعة الفحم والطاقة القوية الحكومة إلى زيادة إجمالي قدرة الصين في إنتاج الطاقة من الفحم، والتي تبلغ حاليا 1080 جيجا واط، إلى 1200 أو 1300 جيجا واط على مدار السنوات الخمس المقبلة، وإلى نحو 1400 جيجا واط بحلول عام 2035. ويخلص تقرير مراقبة الطاقة العالمية إلى أن “توليد الطاقة من الفحم وحده في الصين سيكون أكثر من ثلاثة أمثال الحد العالمي لاستخدام طاقة الفحم الذي وضعته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ للإبقاء على الانحباس الحراري الكوكبي بما لا يتجاوز درجتين مئويتين”، إذا استمرت الصين في توسيع قدرتها حتى عام 2035 كما هو مقترح.
تُرى ما الذي يفسر عودة الصين الواضحة إلى أساليبها المدمنة على الفحم؟ بادئ ذي بدء، كانت الاحتجاجات في هونج كونج، والحرب التجارية مع الولايات المتحدة، وجائحة فيروس كورونا من الأسباب التي حولت تركيز صناع السياسات بعيدا عن الإصلاح البيئي. من الأسباب التي أفضت إلى ذلك أيضا تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين وارتفاع البطالة. كانت الحكومة أكثر اهتماما بتحفيز الصناعات التقليدية الكثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الصلب، والحديد، والأسمنت، في حين شرع قادة المقاطعات في فورة من بناء محطات الطاقة العاملة بإحراق الفحم.
علاوة على ذلك، تسببت الحرب التجارية الأخيرة بين الولايات المتحدة والصين في تعظيم مخاوف الصين بشأن أمن الطاقة، خاصة وأنها تستورد 70% من احتياجاتها من النفط، ونحو 40% من احتياجاتها من الغاز. ورغم أن الصين بذلت قصارى جهدها في مجال الطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فإنها لا تستطيع توسيع نطاق هذه المصادر بالسرعة الكافية لتلبية الطلب المتوقع. كما أن شبكة الكهرباء الحالية غير قادرة على نقل هذه الطاقة بكفاءة من منطقة غرب الصين النائية، حيث يجري إنتاج معظمها، إلى المناطق حيث يرتفع الطلب عليها. ويبدو الفحم ــ المتوفر وغير المكلف نسبيا ــ مصدرا حقيقيا جديرا بالثقة ومجربا للطاقة في نظر كثيرين.
أخيرا، قد لا يكون من قبيل المصادفة أن تأتي “انتكاسة الفحم” في الصين في وقت حيث كانت الولايات المتحدة غائبة عن المشهد المناخي الدولي. وفي حين عمل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وشي جين بينج على إيجاد أرضية مشتركة في المعركة ضد الانحباس الحراري الكوكبي، وتمهيد الطريق للتوصل إلى اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015، فإن انسحاب الولايات المتحدة من هذه القضية في عهد الرئيس دونالد ترمب ربما أضعف التزام الصين أيضا.
تُـرى أي صين سيرى العالم في السنوات العديدة القادمة؟ يصبح هذا السؤال أشد إلحاحا من أي وقت مضى في ضوء التقرير الصادر عن وكالة الطاقة الدولية مؤخرا والذي يحذر من عواقب التقاعس عن وقف جميع عمليات تطوير الوقود الأحفوري الجديدة هذا العام إذا كان للعالم أن يتمكن من تحقيق صافي الانبعاثات صِـفر بحلول عام 2050 وأن يتحلى بالأمل في الحد من زيادة درجات الحرارة العالمية بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية.
كان إعلان شي جين بينج في سبتمبر/أيلول 2020 بأن الصين تسعى إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060 سببا في إحياء حالة من التفاؤل. لكن الآمال في أن تحدد الخطة الخمسية الرابعة عشرة (2021-2025)، التي أطلقت في مارس/آذار من عامنا هذا، استراتيجية الحكومة في ما يتصل ببدء عملية إزالة الكربون، انتهت إلى خيبة الرجاء. وفي قمة المناخ التي عقدها الرئيس الأميركي جو بايدن في إبريل/نيسان، أعلن شي جين بينج أن الصين، خلال الخطة الخمسية الجديدة، تعتزم فرض “سيطرة صارمة” على استهلاك الطاقة العاملة بإحراق الفحم لكنها ستسمح بزيادة هذا الاستهلاك، على أن تتجه إلى “خفضه تدريجيا” بدءا من عام 2026.
الحق أن هذا الجدول الزمني غير طموح على الإطلاق. تشير حسابات الخبراء الذين أعدوا تقرير مراقبة الطاقة العالمية، وTransitionZero، وهيئات أخرى، إلى أن الحد من الانحباس الحراري الكوكبي إلى ما دون مستوى الدرجتين المئويتين “الكارثي” يستلزم أن تغلق الصين 600 من محطات الفحم، التي يبلغ عددها حاليا 1082 محطة، بحلول عام 2030. وإذا كانت حساباتهم صحيحة، فيجدر بالصين أن تبدأ في تحويل اتجاه سفينتها الكربونية الهائلة الحجم الآن.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
دانيال ك. جاردنر المنظم المشارك للمجموعة البيئية الصينية في معهد هاي ميدوز البيئي في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ الصيني والبيئة الفخري في كلية سميث، وهو مؤلف العديد من الكتب عن الصين، تضم “الكونفوشيوسية: مقدمة موجزة”، و”التلوث البيئي في الصين: ما يجب أن يعرفه الجميع”.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.