آفاق بيئية : نجيب صعب*
التحدّي الأبرز الذي يواجه الطاقة المتجددة هو صعوبة تخزينها. فإنتاج الكهرباء من الشمس يتوقف حين لا تسطع أشعّتها، وتوربينات الرياح تدور وفق سرعة الريح صعوداً أو هبوطاً.
معالجة هذا التحدي ارتكزت، حتى الآن، على اتجاهين: فإما تخزين الطاقة في بطاريات، وهي عملية مكلفة، وإما اعتبار الطاقة المتجددة عاملاً مساعداً فقط، مع الإبقاء على قدرة إنتاج الكهرباء بالوسائل التقليدية، وتبادل التغذية بين المصدرين حسب الحاجة. لكن هذه عملية مكلّفة أيضاً، لأنها تتطلب الحفاظ على قدرة إنتاجية مرتفعة للشبكة المساندة.
وما ينطبق على إنتاج الكهرباء للاستخدامات الصناعية والتجارية والمنزلية ينطبق أيضاً على السيارات. فالمحركات الكهربائية تتطلّب بطاريات للتخزين، يرتفع ثمنها مع ازدياد مدة عملها. وإذا كانت السيارة الكهربائية معتدلة الثمن، التي تعمل لمسافة تقل عن 200 كيلومتر، صالحة للاستعمال داخل المدن، فهي لا تصلح للمسافات البعيدة، لأن إعادة شحن البطاريات تتطلب وقتاً طويلاً. أما السيارات الكهربائية التي تستطيع قطع مسافات تصل إلى 600 كيلومتر، مثل بعض طرازات «تسلا»، فهي مرتفعة الثمن.
تعبئة خزان السيارة بالبنزين أو الديزل في محطة الوقود يتطلب دقائق معدودة، وتصل المسافة التي يمكن قطعها في بعض السيارات الحديثة الموفّرة للوقود إلى ألف كيلومتر بتعبئة واحدة. أما شحن البطارية فيتطلب ساعات عدّة، ولن يتوقف السائق لنصف نهار في منتصف الطريق لهذه المهمة. صحيح أن التكنولوجيا تطوَّرت في السنوات الأخيرة، مما أتاح إنتاج بطارية لسيارة كبيرة تمكن إعادة شحنها خلال دقائق. لكن هذا يتطلب قدرة كهربائية كبيرة جداً. فتأمين عشر محطات شحن سريع في مدينة واحدة يستدعي مَدّها بقدرة كهربائية موازية لنحو ألف منزل، إذا عملت كلها في وقت واحد.
طُرحت أفكار كثيرة كبديل عن البطاريات، منها ضخ المياه من خزانات منخفضة إلى أخرى مرتفعة، في أوقات توليد الكهرباء من الشمس والرياح، واستخدامها عند الحاجة لتشغيل توربينات كهربائية، عبر إعادتها، بقوّة الجاذبية، إلى الخزانات المنخفضة.
لكن الحلّ العملي والممكن، الذي تقوده اليوم الصين وألمانيا وبريطانيا، هو الاعتماد على الهيدروجين كناقل للطاقة. فالهيدروجين المسال يمكن تخزينه في محطات المحروقات، وضخّه في خزانات السيارات بسرعة توازي سرعة ضخ البنزين. كما يمكن استخدامه كوقود في محطات توليد الكهرباء. ويتمّ إنتاج الهيدروجين عن طريق التحلّل المائي، باستخدام التيار الكهربائي لفصل الهيدروجين، أحد المكوّنَيْن الاثنين للماء، تمهيداً لتخزينه مضغوطاً ومسيّلاً. أما مصدر الكهرباء التي تحتاج إليها العملية فيمكن، في أي وقت، أن يكون من الشمس والرياح. كما يمكن استخدام الكهرباء من محطات تقليدية تعمل بالنفط والغاز، تقوم على جمع الكربون وتخزينه مركزيّاً، إذ إن هذه التقنية غير متاحة في وسائل النقل أو محطات توليد الكهرباء الصغيرة. إنتاج الهيدروجين يحتاج، ببساطة، إلى كهرباء ومياه، حتى لو كانت مياهاً مالحة من البحر.
تبقى وسائل النقل المجال الأبرز لاستخدام الهيدروجين كوقود. فهو يتمتع بفاعلية أعلى من البنزين، إذ إن عشرة كيلوغرامات من الهيدروجين المسال تكفي لمسافة ألف كيلومتر. وتمكن تعبئة الخزان بالسرعة نفسها التي نحتاج إليها لتعبئة البنزين والديزل. كما أن إنتاج الهيدروجين ممكن من أي مصدر للكهرباء. عدا عن أن استخدامه كوقود نظيف ممكن في كل وقت، بخلاف الشمس والرياح، المرتبطة بعوامل الطقس. وفي حين بدأت شركات سيارات ألمانية، تتصدّرها «بي إم دبليو»، تطوير محركات عاملة على الهيدروجين، دخلت شركات يابانية، في طليعتها «تويوتا»، هذا المجال حديثاً. وأعلنت منذ شهور عن تطوير سيارة هيدروجين بمواصفات فخمة تشبه طرازات «ليكزوس».
توسيع استخدام الهيدروجين في وسائل النقل لا يزال بحاجة إلى خطوات عدّة، تتعدى إنتاج المادة نفسها. فهو يتطلب شبكات توزيع خاصة، وتعديلات في محطات الوقود تحفظ السلامة، عدا عن السعر المرتفع للخلايا العاملة على الهيدروجين. لذا، تتجاوز كلفة شراء وتشغيل سيارة تعمل على الهيدروجين اليوم ضعفي السيارة التقليدية. غير أن الوضع لن يطول كثيراً على هذه الحال، إذ إن الصين تعمل بصمت على تطوير تكنولوجيا خلايا الهيدروجين للسيارات، وإنتاجها بالملايين. ويتوقع الخبراء أنه بحلول سنة 2030، أي بعد عشر سنوات فقط، سيصبح سعر السيارة العاملة بالهيدروجين مساوياً لسعر السيارة التقليدية.
ألمانيا كانت سبّاقة في تسيير قطارات ركّاب تعمل على الهيدروجين، إذ أصبحت في سبتمبر (أيلول) عام 2018 البلد الأول في العالم في هذا المجال. أما بريطانيا فقد أجرت أخيراً تجارب عملية ناجحة على قطار يعمل بالهيدروجين، قطع مسافة طويلة على سكك القطارات التقليدية. ومن المتوقَّع أن تنقل قطارات الهيدروجين الركّاب على الخطوط البريطانية خلال سنتين أو ثلاث على أبعد تقدير. ولن يكون بعيداً اليوم الذي تعمّ فيها قطارات الهيدروجين كل أوروبا.
وفي عام 2016 حلّقت أول طائرة ركّاب تعمل على خلايا الهيدروجين في رحلة تجريبية من مطار شتوتغارت الألماني، لتفتح الطريق أمام تطوّرات قد تغيّر تكنولوجيا الطيران. وفي أغسطس (آب) 2019 أطلقت شركة حديثة الولادة في كاليفورنيا طائرة تعمل بخلايا الهيدروجين، تتسع لـ19 راكباً، وهي تتوقع إنتاجها تجاريّاً سنة 2022. ولدى «إيرباص» و«بوينغ»، أكبر شركتين لصنع طائرات الركاب في العالم، برامج طموحة لتطوير تكنولوجيا خلايا الهيدروجين للطائرات. علماً بأن النقل الجوّي من أكثر سبل المواصلات تلويثاً. وكما الطائرات، بدأت تجارب عملية لتسيير السفن العملاقة على الهيدروجين.
وكانت شركة «أرامكو السعودية» قد أقامت قبل شهور أول محطة لوقود الهيدروجين في السعودية، تقع في وادي الظهران. وتزوّد هذه المحطة التجريبية أسطولاً من السيارات الكهربائية العاملة بخلايا الوقود الهيدروجيني. وتهدف التجربة إلى تعميم استخدام وسائل النقل العاملة على الهيدروجين في السعودية، مما يؤدي إلى تخفيض تلوُّث الهواء.
الهيدروجين وقود نظيف خالٍ من الانبعاثات، لا يصدر من احتراقه سوى رذاذ الماء. ويمكن إنتاجه بلا تلويث من أي مصدر متاح للطاقة. فهل يكون الهيدروجين الذي يحرّك وسائل النقل في المستقبل؟
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) رئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية