مقال في الجغرافيا التخيلية
د. حمدي هاشم
ماذا لو أخفقت تلك القدرة المجتمعة للنيلين الأزرق والأبيض على شق مجرى النهر الكبير بين السودان ومصر؟ وتحولت نعومة أظافرها الحانية لمخالب وحشية في معزوفة النهر الخالد التي هيأت لها الطبيعة جل تناغم المهارات والأدوات. فهل كانت المياه تستطيع الفكاك من مركز ثقل وجاذبية فرق المنسوب بين هضبة الحبشة وانحدار الوادي؟ وبذلك يفترض أن يخطئ نهر النيل خريطة ما وهبته الطبيعة لبلوغه المصب الشمالي واقترانه بالبحر المتوسط.
وهكذا يمكن محاكاة الهدف باستخدام برامج الحاسب الآلي المتقدمة، من خلال تشكيل هيئة كنتورية خاصة لمناهضة فورة شباب النهر قرب منابعه وأسر قوته الجارفة بافتراض وجود موانع أرضية قادرة، بما توفره من إعاقة جيولوجية مؤقتة، على قهر طواعية تكوينات عصر البلايوسين الجيرية التي شكلت بجدارة مجرى النهر السطحي، حتى لا تجد الأخت الحبشية الكبرى لمنابع النيل الاستوائية بمياهها الموسمية وأخواتها الستة الأخريات بمياههم الدائمة طوال العام غير ملء هذا المنخفض الأرضي بين السودان ومصر، لتظهر في شمال إفريقيا أكبر بحيرة عذبة على سطح الأرض، تفوق في مساحتها بحيرة سوبيريور بأمريكا الشمالية وتقترب من مساحة بحر قزوين، حيث تختفي على إثرها أجزاء كبيرة من السودان وجنوبي مصر.
هنا قد تضل معزوفة الطبيعة علياء نهرها الخالد وتظهر في الظلمة مخالب حبشية تسهل عملية هرب النهر بحمله الثقيل من الماء مرتفع المنسوب ليضع دلتاه على مشارف البحر الأحمر، بخريطة شرقية متضرسة نوعاً ما تتخللها التواءات أرضية وكهوف مفتوحة، لتصريف المياه الزائدة من كأس هذه البحيرة الأفريقية العظمى.
ولا شك أن تلك الظروف البيئية السائدة ستؤثر على أشكال الحياة البرية والبحرية، وتقرر مواضع الواحات وأماكن الراحة في الصحارى المحيطة، بما في ذلك تحديد مواقع قيام التجمعات البشرية، والتي تدفع الإنسان للتأقلم الأنثروبولوجي مع المكان تحت ضغط ذلك الأسر الافتراضي.
وهنا يزداد يقين الطبيعة وتظل عوامل هبة النيل الفاعلة في بحثها عن نقاط ضعف جيولوجية أسفل صخور ذلك الحائل الشمالي التخيلي، حتى تغذى بغزارة هذا النهر الجوفي العظيم داخل الأراضي المصرية، وربما راجت الثروات الطبيعية وعلى رأسها البترول والذهب لتصبح مصر، رغم دلالة حجمها السكاني، من أهم مصدري خام البترول ومنتجاته في العالم، بل تظل الدولة الأعلى دخلاً في محيطها الإقليمي والدولي. ولا تنسى تأثير ذلك المسطح المائي العظيم على المناخ المحلى وزيادة الفرصة لسقوط الأمطار بكميات قد تناسب قيام بعض الأنشطة الاقتصادية ومنها الزراعة.
هنالك تستطيع الدولة المصرية تنفيذ مشروع ترعة عملاقة في الجنوب، بمحاكاة صناعية لمجرى النهر الحالي، ولا مانع من موافقة ومراقبة دول المنبع السبعة ودفع تكلفة الفاتورة المستحقة عن مرور المياه، رغم تعارض ذلك مع الأعراف والقوانين الدولية، بل كان مركز مصر المالي سيمكنها (إذا لزم الأمر) من أن تدفع قيمة الفاتورة مقدماً للحصول على حقها الحدودي من المياه. وذلك سيضع مصر في حزمة تنموية حدية لا تمنعها من استغلال وتحرير طاقة الصحراء في مشروعات السياحة الترفيهية والعلاجية وإقامة الصناعات المتوافقة مع البيئة، وكذلك المشروعات العملاقة لتوليد الطاقة وتحلية المياه وغيرها مثل ممر التنمية بالصحراء الغربية.
وقد جرت حكومات دول المنبع وراء فكرة أحد الخبراء الأمريكيين، التي تقوم على الاستغلال اللوجستي لمخزون الجريان النهري من خلال بورصة تحكم إقليمية، باحتساب سعر المتر المكعب من مياه النهر بقيمة أدنى تكلفة للحصول عليه من تحلية مياه البحر (وليس قدر مقطوع من المال نظير الاستفادة من المياه الجارية)، على أن تسدد كل دولة قيمة الاستهلاك الزائد على حصتها من المياه بقسمة التساوي بين دول حوض النهر(المنبع والمصب)، مع إسقاط كافة الحقوق الهيدرولوجية والتاريخية لمصر وعمقها الإستراتيجي في السودان.
درب من الخيال، أن تسدد مصر نظير استهلاكها المائي أكثر من عشرين مليار دولار أمريكي سنويا قابلة للزيادة بمنظور سكاني. بل درست فكرة التحويل القسري لأحد روافد أودية الهضبة الأثيوبية فتصب بمنطقة البحيرات العظمى في وسط القارة الأفريقية، لتعزيز أكبر مخزون إستراتيجي من الماء العذب، البكر، يعرض لمن يشترى من خارج دول حوض نهر النيل.
وتشير بعض المصادر التاريخية أن الحملة البرتغالية على ميناء عدن في مطلع القرن السادس عشر الميلادي (سنة 1513)، للاستيلاء على جدة ومن بعدها مكة والمدينة المنورة ضمن خطة لاستعادة السيطرة على بيت المقدس، قد تمخضت عن تحالف البرتغال مع الحبشة من أجل اختفاء نهر النيل عن مجراه الطبيعي، وذلك عن طريق مخطط لشق قناة صناعية بالأودية الواطئة بين المناطق الجبلية لتحويل مجرى النهر ليصب شمالي الأراضي الحبشية بالبحر الأحمر، فيحولا بذلك دون وصول مياه النيل إلى مصر لكسر شوكة المماليك، حينذاك، وتحقيق الأغراض السياسية والاقتصادية الواسعة لتلك الحملة العسكرية الصليبية. هذا المشروع الذي توافق مع رغبة نجاشي الحبشة الكامنة لحجز مياه النيل، والتي سرعان ما تلاشت أمام نفوذ الدولة العثمانية وقوتها العسكرية الحامية لمصر وشبه الجزيرة العربية.
لا شك أن إسرائيل قد ملأت فراغ دولة البرتغال وأباطرة الصليبيين لتؤدى ذلك الدور التاريخي الممتد. حيث طيرت في الآونة الأخيرة، فكرة مد الأنبوب البحري بين أثيوبيا وإسرائيل لنقل مياه النيل عبر أعماق البحر الأحمر وصولاً إلى أنسب موقع أمنى على خليج العقبة يسمح برفع المياه المجلوبة لتعمير وتنمية صحراء النقب، ذلك المشروع الروحي للديانة اليهودية وأثاره المبشرة باستقرار دولة إسرائيل العظمى.
بل حاكت إسرائيل خطة سرية بوساطة أوغندية للاستفادة القسرية من مياه النيل في مقابل ضمان الاستقرار المائي بين دول الحوض، وهى أن تلتزم إسرائيل باستكمال مشروع قناة جونجلى في جنوب السودان لتوفير نحو 15 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، تتقاسم نصفها كل من مصر والسودان شريطة أن تلتزم الدولتان بتوصيل النصف الآخر إلى إسرائيل في مقابل دفع الأخيرة 750 ألف مليون دولار أمريكي إلى دول منابع النيل، تقسم فيما بينها حسب الحجم السكاني لكل دولة. ونعود لتأكيد أن الطبيعة لم تكن تعرف الفواصل الجغرافية والتكتلات السياسية الحالية، وذلك المد الطاغي للولايات المتحدة (وربيبتها إسرائيل) بعد أن ظنت أنها ورثت الأرض وما عليها, وأنه في الغالب سيظل الماء قسمة بين دول حوض النيل الذي يجرى فيه مجرى الدم من العروق الأفريقية المشتركة.
مع اختفاء النهر، تتغير الجغرافية العسكرية للمنطقة برمتها وتؤول نظرية دولة إسرائيل في ميراثها المائي بين النيل والفرات إلى متحف التاريخ، بل قد تختفي إسرائيل ذاتها من الوجود. ومع ذلك لن تتأثر أهمية موقع مصر الإستراتيجية وستبقى منارتها الإقليمية والدولية. بل ستكون التغيرات المناخية المرتقبة على شمال مصر أقل في آثارها ويسهل مواجهتها.
أما ضخ رؤوس الأموال متعددة الجنسيات بدول منابع النيل وعلى رأسها إثيوبيا فلا شك من تراجع مبرراتها، ومعها قد تتلاشى حدة حروب السدود (تانا بليز وغيره) بخفوت تأثيرها الإستراتيجي لاقتصارها على توليد الكهرباء والزراعة الحيوية للتصدير.
وهنا يجب الاعتراف بآثار وفرة المياه الجارية على شخصية الفلاح المصري شديد التواكل والالتصاق بالنهر، والذي أكل أراضيه قبل أن يتعدى عليها سكان الحضر تحت ضغط الزيادة السكانية المستمرة. ويتطلب الحل لمواجهة تلك الأزمة القادمة، ترسيخ قواعد ترشيد استهلاك المياه والتعويل على إعادة استخدامها حسب النوعية، مع أقلمة مشروعات التنمية البشرية للموارد المائية المتاحة واستغلال فتوحات العلم في تأكيد رفاهة المعيشة مع ندرة المياه ومنها الزراعة حدية الماء والتربة، واستمطار السحب والتحكم في المناخ المحلى وغيرها من نتائج العلوم الحساسة. وبذلك يبقى أصل القول أن مصر هبة المصريين ليتلاشى صدى مقولة هيرودوت الشهيرة.
****************************************************************************
الهوامش:
– مقال في الجغرافيا التخيلية، جاء هذا العنوان الفرعي لتنوير القارئ قبل شروعه في استعراض الفكرة، بهدف تأكيد محاكاة الموقع الجغرافي التخيلي لاختفاء ظاهرة نهر النيل وعدم بلوغه البحر المتوسط في شمال مصر، وذلك بالاعتماد على واقعة تاريخية تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، حينما أقنعت البرتغال نجاشي الحبشة بإمكانية تحويل مجرى النهر الكبير ليصب شمالي الأراضي الحبشية بالبحر الأحمر لقطع المياه عن مصر وتعطيشها، مثلما فعلت باكتشافها طريق رأس الرجاء الصالح لقطع طريق التجارة البرى بين الشرق والغرب من المرور عبر الأراضي المصرية لإقصاء مصر وإفقارها. أي أن اقتران الجغرافيا التخيلية بالعنوان الرئيس جاء بتلقائية شديدة من واقع تخصصي في الجغرافيا البيئية وتلا ذلك البحث عن المصطلح ليظهر عند إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” كمفهوم للبني الاجتماعية السياسية التي قسمت العالم وفقاً لمناطق نفوذ تمتلكها جماعات بشرية كبيرة متميزة، وعلى وجه التحديد الشرق والغرب، من منطلق كونها كيانات جغرافية وثقافية، دون ما تنويه عن كونها كيانات تاريخية، هي من صنع الإنسان. حيث يؤكد بديهية أن أحداً من الشرق “لم يكن يعرف” أنه من الشرق قبل الغزو الأوروبي العسكري ثم الثقافي وغير ذلك. ولما عرفت هذا المفهوم الذي ابتكره إدوارد سعيد حرصت على تأكيد استعارته لصلاحيته في التداعيات الإقليمية والدولية لموضوع أزمة المياه بين دول حوض نهر النيل.
– وتشير بعض المصادر التاريخية : تولى الأسطول البرتغالي شن الحملات العسكرية على بلاد المسلمين بعد سقوط القسطنطينية (1453 م) وتزايد الخوف من زحف جيوش الدولة العثمانية على مدن البلقان وشرق أوروبا. وقد اكتشفت البرتغال قبل نهاية القرن الخامس عشر الميلادي طريق رأس الرجاء الصالح لقطع الطريق البري للتجارة بين الغرب والشرق عبر الأراضي المصرية، بل تحالفت مع كل من الهند والحبشة وإيران لتطويق العالم الإسلامي، فثبتت قواعدها على سواحل الهند وسواحل شرق أفريقيا واحتلت نقاط للسيطرة على مفاتيح البحر الأحمر والخليج الفارسي والبحر العربي (1507م)، منها مضيق هرمز وعدد من المناطق كالبحرين والبصرة ومسقط. تلا ذلك عدة حملات للاستيلاء على مدينة عدن (بدأت عام 1513م )، والتي لم تتمكن من احتلال هذه المدينة الإستراتيجية حتى تنفذ خطة غزو الأماكن المقدسة في بلاد الحجاز. بينما تمكنت الدولة العثمانية بقوة أسطولها البحري من فرض قبضتها على مضيق باب المندب وسواحل البحر الأحمر، وذلك منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي. لمزيد من التفصيل: محمد حسين السلمان، الغزو البرتغالي للجنوب العربي والخليج في الفترة ما بين 1505ـ 1525، أبو ظبي، مركز زايد للتراث، 2000. وكذلك: أنيس القيسي، صفحات من تاريخ الغزو البرتغالي للخليج العربي والبحر الأحمر في مطلع القرن السادس عشر. معتمد على معلومات المرجع السابق في عرضه الموضوع على شبكة الإنترنت. وكانت من أهداف حملة البرتغال للاستيلاء على ميناء عدن، فكرة شق قناة مائية بين جبال البحر الأحمر والنيل لتحويل مجرى النهر الكبير ليصب في أراضى الحبشة دون غيرها فيتحقق بذلك حرمان مصر من المياه ويجعلها تموت عطشاً، وعليه فقد تمركزت قوات تلك الحملة بإحدى جزر البحر الأحمر في انتظار العمالة القادرة على قطع الصخور الجبلية لتحويل مجرى نهر النيل. وقد راقت تلك الفكرة لملك الحبشة وظن أنها سهلة المنال، ولكن الظروف الطبيعية والسياسية قد حالت دون تنفيذها وتمكن الأسطول العثماني من تحطيم فلول الأسطول البرتغالي في شرق أفريقيا وتأسيس ولاية الحبش العثمانية.
– نشر هذا المقال منذ ثلاث سنوات في بوابة “عرب نت فايف” (يوليه 2010) وبعد ذلك نشر بموقع “خطوات في الجغرافيا” (أكتوبر 2010)، ثم نشرته وزارة الدفاع بجمهورية السودان على صفحتها بشبكة الانترنت (ديسمبر 2010). هذا وتم نشر المقال ورقيا في جريدة وصلة (ع9، ص10، نوفمبر 2010) حيث كان من أبرز المقالات التي نشرتها مدونة أحمد مجدي “خطوات في الجغرافيا” وحصلت بها على جائزة مميزة من الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان. ولما تطورت الأحداث في الآونة الأخيرة حول تدشين العمل في سد النهضة الإثيوبي وتحويل مجرى النيل الأزرق بدون الانتظار إلى قرار اللجنة المشتركة لدول الحوض، وجدت في إعادة نشر المقال على بوابة “أفاق بيئية” فرصة لإعادة طرح هذه الفكرة الرائدة في الجغرافيا البيئية التخيلية.
ممكن تطبيق هذه الفكرة حاليا وذلك بحفر مجري صناعي من مدينة ابو حمد شمال السودان الي البحر الاحمر شرق السودان.