آفاق بيئية : سميرة نبكوري*
تعد ظاهرة هجرة الأطباء من بين الظواهر الاجتماعية التي أنتجتها البنيات السياسية والاقتصادية للمجتمع المغربي، إذ تمثل هذه الظاهرة اليوم بمثابة وباء أٌصيبت به المنظومة الصحية، فهجرة الأطباء تعني هجرة الأفكار والمهارات وتقنيات العلاج، وليست فقط هجرة أجساد متحركة بل الأمر يتعلق بالكفاءة والممارسة، إذ يمكن اعتبار هجرة الأدمغة بمثابة نزيف اجتماعي يؤثر على النسق الكلي للمجتمع.
إن الهدف من هذه الدراسة هو إبراز هجرة الأطباء كظاهرة اجتماعية تؤثر في البناء الاجتماعي ككل، وكيف يمكن اعتبار هجرة الأدمغة (الأطباء) معيار لتدهور المنظومة الصحية من خلال الأوضاع التي يعيشها الطبيب داخل المشفى العمومي، وكيف تؤثر على حياته اليومية مما يضطر إلى اتخاد الهجرة كوسيلة وحل لمشاكله النفسية والاقتصادية وكدا الاجتماعية، وذلك من خلال العمل على كشف الآليات التي تحفز استمرار هذه الظاهرة عن طريق استعمال نظريات سوسيولوجية وبحث ميداني يجيب عن الإشكالية العامة للظاهرة المدروسة. بالإضافة إلى تبيان الفوارق الاجتماعية للأطباء في القطاع العام والخاص، ومدى تأثير ذلك على قرار الهجرة.
لم يكن موضوع هجرة الأطباء موضوع نقاش سياسي واجتماعي إلا في السنوات العشر الأخيرة، نظرا لتكرار هذه الظاهرة الاجتماعية وظهور أثرها السلبي على الفرد والجماعة من جهة وعلى سياسيات التنمية من جهة ثانية، وفي هذا السياق عملت الدولة على محاربة هذه الظاهرة التي تؤثر على البناء الاجتماعي ككل، بحيث أن تأثيرها قد ينتقل إلى وعي الأفراد وتمثلاتهم في قضايا الصحة والمرض والموت.
فالحديث عن هجرة الأطباء في البلدان التي تسمى ببلدان العالم الثالث أو في طريق النمو، هو تعبير عن فقدان هذه البلدان لاستراتيجيات الحفاظ على الأطر والكفاءات الطبية المؤهلة، إذ تكشف هذه الظاهرة على هشاشة البنيات الاستشفائية من جهة وهشاشة السياسات العمومية لقطاع الصحة من جهة ثانية، فالبنى الاجتماعية لبلد في طريق النمو كالمغرب يعاني من ضعف الوسائل التي تفيد في إعادة تأهيل المنظومة الصحية والعلاجية لفتح مجال عمل متوازن للطبيب قصد منحه فضاء علاجي تتوفر فيه الشروط الصحية لتقديم خدمات علاجية كاملة للمريض.
وتسعى هذه الدراسة أيضا إلى فهم طبيعة العلاقات الاجتماعية الموجودة داخل المجال الطبي، من حيث أن العلاقة بين الطبيب والمريض قد تفرز ظواهر نفسية سلبية لدى الطبيب ما يدفعه إلى اتخاد قرار الهجرة، فالإضافة إلى كون أدوات العمل بجميع مستوياتها تدخل ضمن متغيرات المتحكمة في ظاهرة الهجرة وسأحاول الكشف عن طرق تدخلها وتحكمها في الطبيب، ثم ابراز المؤسسات السياسية كعامل رسمي في إنتاج ظاهرة الهجرة داخل المجال الطبي.
إن أهمية السؤال السوسيولوجي حول هجرة الأطباء لا تنبع من كونها قضية اجتماعية تؤثر على مستويات التنمية والتنمية البشرية بالمغرب، بل لكونها تمخضت في رحم البنيات الاجتماعية والتنظيمات التي تؤطر البناء الاجتماعي المغربي، وعليه فإن هجرة الأطباء كإشكالية تصاحبها إشكالات كبيرة تطرح في قضايا التنمية والتخلف، تشكل اليوم أحد الظواهر التي تعكس واقع اجتماعي يتحكم في مسارات هذه الهجرة، والبحث هنا ينصب أساسا في أهمية الشروط الاجتماعية كمحددات لهجرة الأطباء.
إذن يمكن القول بأن الإشكالية الكبرى التي انطلقت منها هذه الدراسة، تأسست أساسا في الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للطبيب من موقعه كفاعل أساسي في العملية العلاجية، وكيف أصبح أساس البحث السوسيولوجي في ارتباطه بالهجرة كظاهرة اجتماعية، وبعبارة أخرى البحث عن الأسس الاجتماعية التي تدفع الطبيب إلى الهجرة وذلك عبر الإجابة عن السؤال المركزي الذي تمت صياغته على الشكل التالي: إلى أي حد تساهم المنظومة الصحية من خلال وضعية الأطباء الاجتماعية والاقتصادية في جعلهم مشروع مهاجرين؟
إن اختياري لطبيعة المنهج الذي سأعتمد عليه في دراسة ظاهرة هجرة الأطباء، لا تنبع من تفضيل منهج على آخر، بل لكون المنهج الكمي أنسب مقارنة مع المنهج الكيفي في موضوع بحثي، ولكون أن ظاهرة الهجرة بصفة عامة لا يمكن فهمها انطلاقا من دلالات ومعاني ورموز فردية، بل إخضاعها لمنطق العام الكلي للمجتمع، أي مساءلة البنيات الكلية التي تؤثر على مسارات الهجرة، ولكون هذه الظاهرة تخضع للكثير من المؤثرات والمتغيرات التي تتداخل وتتشابك فيما بينها من جهة ولكونها ظاهرة ديناميكية من جهة ثانية، وعلى هذا الأساس اخترت المنهج الكمي لمقاربة هذه الظاهرة. إذ تنبع أهمية التفسير على الفهم في دراسة ظاهرة هجرة الأطباء، في كونه يبحث في تحليل أسباب الظواهر التي تؤثر في الظاهرة المدروسة، بغية الوصول إلى الأسباب الأولية التي تتحكم فيها والتي غالبا ما يسهل ربطها بالقوانين العامة للمجتمع.
في ختام هذه الدراسة وبعد تحليل النتائج المتوصل إليها من خلال الدراسة الميدانية، يتبين أن هجرة الأطباء هي ظاهرة اجتماعية إلزامية على الاطباء، وذلك على اعتبار أن المنظومة الصحة هو تنظيم لإنتاج أطر طبية مهاجرة، صحيح أن هناك أطباء يفضلون الاشتغال في القطاع الخاص بدل الهجرة، غير أن هذه الفئة تظل ضعيفة مقارنة مع باقي الأطباء، وتمثل النظرية الصراعية من بين النظريات التي تفسر ظاهرة الهجرة، على اعتبار أن تنامي الرأسمالية المتوحشة في المجتمعات المتخلفة حولت كل الفعاليات الطبية والتقنية إلى مأجورين لديها، بالتالي نزع الحقوق منها يخلق صراعا اجتماعيا بين فئتين متعارضتين على مستوى الأهداف والمصالح، ووعي الأطباء بضرورة الحصول على امتيازات من النظام المسير للمنظومة الصحية يخلق جدلا للطبقة المسيطرة، وعليه فإن هذه الأخيرة تسعى إلى فرض بنودها على القطاع مما يخلق وضعية اجتماعية واقتصادية للطبيب تتميز بالهشاشة وسوء التنظيم…
*سميرة نبكوري : طالبة باحثة في سلك الدكتوراه، علم الاجتماع