آفاق بيئية : فيرنر هوير؛ تيدروس أدهانوم غيبريسوس
بروكسل ــ ما كان لأحد أن يتوقع المدى الذي قد يبلغه مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في تقويض عقود من التقدم في مجال الصحة العامة العالمية. ولا يزال العالم يترنح تحت وطأة الصدمة. لكننا لدينا الفرصة ــ والواجب ــ لتعلم الدروس الصحيحة للتخفيف من التأثيرات التي تخلفها الجائحة المستمرة، والعمل في ذات الوقت على تقليص مخاطر وقوع أحداث مماثلة في المستقبل.
على الرغم من التهديدات الجديدة التي تلوح في الأفق، لا يجوز لنا أن نسمح بانصراف تركيزنا عن كوفيد-19. لقد سلطت الجائحة الضوء على فجوات كبيرة في أنظمة الصحة العالمية. والتقاعس عن معالجة هذه الفجوات سيكون من قبيل السياسة العامة السيئة والإدارة الاقتصادية الرديئة، لأننا من غير الممكن أن نقايض بين الصحة والتنمية الاقتصادية. لق أثبتت الجائحة أن الصحة عنصر بالغ الأهمية لتعزيز التنمية، والازدهار، والأمن الوطني.
تسببت الارتباكات الناجمة عن الجائحة والتي تعرقل عمل قطاع الخدمات الصحية في ارتفاع حالات فيروس نقص المناعة البشرية، والسل، والملاريا، والعديد من الأمراض غير المعدية ــ في عدد الإصابات غير المبلغ عنها والوفيات. هذه أمراض حقق العالم في السابق مكاسب عظيمة نحو السيطرة عليها. ما يزيد الطين بلة أن الجائحة أدت إلى تناقص متوسط العمر المتوقع، وانخفاض تغطية التحصينات الأساسية، وتزايد تحديات الصحة النفسية والعقلية.
ويتفاقم إرث الجائحة المؤلم بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا والتي تسببت في اندلاع أزمة إنسانية واسعة الانتشار، وعرضت إمدادات الغذاء العالمية للخطر، وزادت أسعار الغذاء والطاقة، وتهدد بإحداث حالة من الركود والمصاعب الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم. في سبتمبر/أيلول حَـذَّرَ صندوق النقد الدولي من أن “التأثير المترتب على ارتفاع تكاليف استيراد المواد الغذائية والأسمدة التي تتحملها البلدان المعرضة بشدة لانعدام الأمن الغذائي سيضيف 9 مليارات دولار إلى الضغوط المفروضة على ميزان مدفوعاتها ــ في عامي 2022 و2023. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تآكل الاحتياطيات الدولية لدى البلدان، فضلا عن قدرتها على سداد ثمن الواردات من المواد الغذائية والأسمدة”.
علاوة على ذلك، استحضر ارتفاع أسعار الفائدة والأوضاع المالية المتزايدة الإحكام شبح ضائقة ديون واسعة الانتشار في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. من خلال إخضاع الموارد المالية العامة لضغوط شديدة، تسببت الصدمات العالمية الأخيرة في تعريض الاستثمار الطويل الأجل في الصحة للخطر.
إن التضامن العالمي والمساواة من الركائز الأساسية التي تقوم عليها أي استجابة فَـعّـالة للتحديات التي نواجهها. ينبغي لنا أن نتقدم على ثلاث جبهات للحفاظ على الدور المركزي الذي تضطلع به الأنظمة الصحية ــ على وجه التحديد الرعاية الصحية الأولية ــ في كل الأوقات، وخاصة عندما تندلع الأزمات الاقتصادية.
أولا، يجب زيادة الاستثمار في الرعاية الصحية الأولية، لأن فجوات الاستثمار في الصحة تزداد اتساعا أثناء الأوقات العصيبة كتلك التي نعيشها الآن. وبدورها، تعمل هذه الفجوات على زيادة المخاطر التي يواجهها الناس بفعل التهديدات العالمية، سواء كانت من صُـنع البشر أو غير ذلك. من مصلحة الجميع أن نساعد كل البلدان التي تفتقر إلى الموارد لتمكينها من الاستثمار بالقدر الكافي في مرونة الأنظمة الصحية وقدرتها على الصمود والتأهب للجوائح والاستجابة لها.
ثانيا، يحتاج الإبداع في علوم الحياة إلى مزيد من التمويل، وخاصة لزيادته بطريقة مستدامة. وهذا يعني دعم الإنتاج المحلي أو ابتكارات تسليم خدمات الصحة النفسية القادرة على الوصول إلى ملايين الأشخاص والتي يمكن دمجها في أنظمة الرعاية الصحية الأولية.
ثالثا، يجب أن تتعاون المنظمات المتعددة الأطراف لإعدادنا جميعا لمواجهة التهديدات الصحية في المستقبل بقدر أكبر من الفعالية. وهنا من الممكن أن توفر مبادرات مثل اتفاق ملزم قانونا بشأن الجوائح، تطوره البلدان وتصدق عليه وتمتد جذوره إلى دستور منظمة الصحة العالمية، كتيب القواعد المطلوب بشدة للوقاية من الجوائح والاستجابة لها.
من المؤسف أن العالم، حتى قبل اندلاع جائحة كوفيد-19، كان متأخرا في السباق لتلبية الأهداف الصحية المتفق عليها عالميا، بما في ذلك العديد من تلك المنصوص عليها في أهداف التنمية المستدامة لعام 2030. والآن، دفعتنا الجائحة إلى المزيد من التقهقر.
في أوقات ارتفاع الديون وزيادة المخاطر التي تهدد استدامة الديون، يتعين على الحكومات، والمنظمات الدولية، والمؤسسات المالية أن تتعاون بشكل وثيق لإعادتنا إلى المسار الصحيح. في حين أوضحت جائحة كوفيد-19 أوجه القصور العديدة التي تعيب التعاون العالمي، فقد أثبتت أيضا أهمية العمل التعاوني.
لهذا السبب، التزمت منظمتنا بالجمع بين مواطن قوتنا لتعزيز وزيادة الاستثمارات في الصحة.
على سبيل المثال، بدعم من بنك الاستثمار الأوروبي، ومنظمة الصحة العالمية، وصندوق ويلكوم، ومؤسسات أخرى، يستثمر صندوق العمل المعني بالتعامل مع مقاومة مضادات الميكروبات في حلول مبتكرة للتصدي لمقاومة مضادات الميكروبات وضمان استمرار ظهور عقاقير جديدة لتلبية الاحتياجات الأساسية. الواقع أن المجتمع العلمي يعتبر مقاومة مضادات الميكروبات بالفعل “جائحة صامتة” وتهديدا خطيرا للصحة العالمية والتنمية.
علاوة على ذلك، نعمل من أجل توجيه موارد إضافية من شركاء آخرين، مثل المفوضية الأوروبية، ومؤسسات تمويل التنمية، والقوى الفاعلة في القطاع الخاص، لتعزيز الخدمات الصحية حيثما تشتد الحاجة إليها. في وقت سابق من هذا العام، أعلنا عن شراكة، بتعاون وثيق مع المفوضية الأوروبية والاتحاد الأفريقي، لتعزيز الأنظمة الصحية، وخاصة الرعاية الصحية الأولية، في أفريقيا. وقد تعهد بنك الاستثمار الأوروبي بتوفير 500 مليون يورو (520 مليون دولار أميركي) على الأقل لتعبئة أكثر من مليار يورو لأغراض الاستثمار، مع التركيز بشكل خاص على الرعاية الصحية الأولية في البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.
الآن، تحرز مشاريع تعاونية جديدة تقدما ملموسا بالفعل في أفريقيا والشرق الأوسط. في رواندا، ستعمل منظمة الصحة العالمية على تقديم المشورة المباشرة للحكومة بشأن إعادة بناء المختبر الوطني للصحة هناك، بتمويل من المفوضية الأوروبية وبنك الاستثمار الأوروبي. سوف يُـجري المختبر الجديد أكثر من 80 ألف فحص سنويا، بما يخدم عددا من السكان يتجاوز 12 مليون نسمة.
لإحداث تأثير قابل للقياس في هذه البلدان، نركز على استخدام آليات تمويل مبتكرة لحفز التمويل المحلي وتعزيز هدفنا المشترك المتمثل في توفير الصحة للجميع. في ذات الوقت، نحن ملتزمون بتعزيز الاستدامة في إدارة الديون، حتى لا تؤدي استثمارات البلدان المشاركة لنا في الصحة إلى معاناة مالية. مرة أخرى، الاستثمار في الصحة يعني تعزيز السياسة الاقتصادية السليمة.
الواقع أن الصحة الجيدة والرفاهة من الأهداف التي يشترك فيها العالم بأسره. ولتسريع نشر الحلول الصحية المبتكرة، يتعين على البلدان والمؤسسات أن تعمل معا لتعزيز التعاون ليس فقط بين الدول بل وأيضا بين الحكومات والقطاع الخاص.
ترجمة: إبراهيم محمد علي
فيرنر هوير رئيس بنك الاستثمار الأوروبي. تيدروس أدهانوم غيبريسوس مدير عام منظمة الصحة العالمية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.