آفاق بيئية: الدكتور حسان التليلي*
خلال الحملة الممهدة للدورة الانتخابية الرئاسية الثانية، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مدينة مرسيليا يوم 16 أبريل-نيسان عام 2022 إن مدته الرئاسية الثانية في حال فوزه ” ستكون بيئية أو لا تكون “. وقد اضطُر ماكرون إلى إطلاق هذا الشعار بعد أن أجمع المختصون في شؤون البيئة والقضايا المتصلة بإشكالية التغير المناخي على أن برنامج جان لوك ميلانشون مرشح حركة ” فرنسا الأبية” المنتمية إلى أقصى اليسار هو الأفضل ضمن برامج المرشحين إلى هذه الانتخابات حول سبل مواجهة المشاكل المتصلة بالبيئة والتنمية في فرنسا. ولاحظ ماكرون بنفسه من خلال نتائج الدورة الانتخابية الرئاسية التي جرت في العاشر من الشهر ذاته أن أصوات جزء كبير من أصوات الناخبين الشبان ذهبت خلال الدورة الأولى إلى ميلانشون لأن أصحابها مقتنعون بأن هذا المرشح الذي حصل على قرابة 22 في المئة من الأصوات في أعقاب تلك الدورة هو الذي لديه -على عكس المرشحين الآخرين- برنامج طموح ومتكامل بشأن سبل تعزيز منطق الاستدامة من خلال مقاربة تأخذ في الحسبان الاعتبارات البيئية والاجتماعية والاقتصادية في العمل التنموي.
لذلك حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال حملته الانتخابية الرئاسية القصيرة على إطلاق شعاره الذي قال فيه إن مدته الرئاسية الثانية ” ستكون أو لا تكون”. بل إنه قال في مدينة مرسيليا حيث يحظى جان لوك ميلانشون بشعبية كبيرة لدى الشباب إنه سيجعل من الهَمِّ البيئي الرهان الأساسي الواجب كسبه خلال السنوات الخمس المقبلة من خلال التركيز على مبدأ ” التخطيط البيئي”. وقد فرض هذا المصطلح نفسه في السنوات الأخيرة على خبراء البيئة والتنمية المستدامة والمساهمين في تفعيل العلاقة بين البيئة والتنمية في البلدان الغربية بوصفه منهجية يمكن أن تكون ناجعة لتخطي إشكالية الالتزامات التي يتم التعهد بها ولا يوفى بها.
ويقول سيباستيان تريير مدير معهد التنمية المستدامة والعلاقات الدولية الفرنسي إن نجاح هذه المنهجية يتطلب الالتزام بعدة ركائز تقوم عليها يمكن حصر أهمها في 5 نقاط هي:
أولا: تحديد أهداف واضحة المعالم على المديين المتوسط والبعيد
ثانيا: ضبط استراتيجية تفعيل هذه الأهداف أو جزء مهم منها على مراحل من خلال توافر إرادة سياسية قوية لاسيما لدى الماسكين بالسلطات التنفيذية على المستويات الوطنية والإقليمية والمحلية
ثالثا: التركيز أساسا في إطار هذه الاستراتيجية على آلية تعبئة محكمة تتصل بالاستثمارات الكبرى المتأتية من القطاع العام لتمويل مشاريع الانتقال المتدرج من مرحلة الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية الملوِّثة إلى مرحلة استخدام مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة
رابعا: حشد الطاقات البشرية لدى الأطراف الفاعلة في عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك للمساعدة على إنجاز هذه الاستراتيجية
خامسا: وضع آلية متابعة لِما أُنجز ولِما لم ينجز والعمل على اتخاذ الإجراءات الضرورية لتدارك الهفوات أو لتصويب الأخطاء بشكل ينعكس إيجابا في نهاية المطاف على الاستراتيجية المعتمدة.
وثمة إلحاح لدى خبراء التنمية المستدامة على أن الرئيس الفرنسي مضطر خلال فترته الرئاسية الثانية التي ستستمر حتى ربيع عام 2027 إلى استخدام مثل هذه المنهجية حتى لا يظل رصيده في مجال العمل البيئي هزيلا أو مجرد كلام معسول يُلقيه أمام الناخبين خلال الحملات الانتخابية أو في المحافل الدولية من على منابر المؤتمرات والندوات والتظاهرات الأخرى الكثيرة حول الموضوع والتي تَرُوج فيها سوق الخطابات المعسولة والالتزامات غير المُلزِمة.
والحقيقة أن تركيبة الحكومة الفرنسية الجديدة التي تم الإعلان عنها في 20 مايو -أيار 2022 جعلت كثيرا من متابعي السياسيات البيئية المعتمدة في البلاد منذ عقود يشككون في الشعار الذي أطلقه ماكرون خلال حملته الرئاسية الأخيرة والذي التزم بموجبه بجعل الملف المرتبط بتخضير الاقتصاد الفرنسي وبالاعتبارات البيئية والاجتماعية المتصلة بالدورة الاقتصادية في صدارة اهتماماته خلال السنوات الخمس المقبلة. فهم يرون أن الهندسة التي يقوم عليها بناء التشكيلة الحكومية الفرنسية الجديدة تُغري، ولكنها يمكن أن تكون مصدر تضليل الرأي العام الفرنسي بشكل عام والناشطين في المجال البيئي بشكل خاص. فهذه الهندسة تجعل من رئيسة الوزراء الجديدة إيزابيل بورن مسؤولة مباشرة عن التخطيط في مجالي البيئة والطاقة. وتشرف رئيسة الوزراء مباشرة في هذا الإطار على عمل وزارتين وكتابة دولة أي “وزارة دولة ” حسب المصطلح المستخدم في البلدان العربية المشرقية. أما الوزارتان فقد خُصصت إحداهما للانتقال البيئي والتناسق الإقليمي. وعهد لآميلي دو مونشالان في إدارة هذه الوزارة . وخصصت الوزارة الأخرى لـ”الانتقال في مجال الطاقة ” وتقودها هي الأخرى امرأة تدعى ” أنييس بانييه روناشيه “. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كتابة الدولة أو ” وزارة الدولة” الجديدة المهتمة بالشأن البيئي والتنمية والمندرجة في إطار التشكيل الحكومي الفرنسي الجديد تهتم بالشأن البحري. كما أضيفت للهندسة الجديدة أمانة عامة تُعنى بالانتقال البيئي.
وصحيح أن إدارة الملفات البيئية في العمل الحكومي الفرنسي انطلاقا من هذه الهندسة أمر محمود في ذاته. فلأول مرة يُمنح الشخص الذي يتولى رئاسة الوزراء في فرنسا صلاحيات واسعة ومباشرة لإدارة الملفات المتعلقة بالسياسة البيئية انطلاقا من أجهزة وزارية وغير وزارية تابعة لها. ولكن تساؤلات كثيرة بدأت تُطرح عن طبيعة الصلاحيات الحقيقية التي سيمنحها رئيس الدولة رئيسةَ الوزراء الجديدة وعن مدى تمكن هذه الأجهزة من تجاوز عقبة الثقل البيروقراطي الذي لا يزال يكبل إلى حد كبير أداء الأجهزة الحكومية العاملة في هذا المجال وفي مجالات حيوية أخرى.
زد على ذلك أن كتابة الدولة أو “وزارة الدولة” المخصصة في تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة للبحر تُعَدُّ حسب المشككين في السياسة التي يرغب الرئيس ماكرون في انتهاجها في مجال البيئة والتنمية خيارا غير مصيب لأن البحر كانت لديه وزارة بكاملها لا كتابة دولة أو وزارة دولة في الحكومة السابقة التي كان يترأسها جان كاستيكس ولأن فرنسا هي اليوم بفضل مقاطعات ما وراء البحار القوة البحرية الثانية في العالم من حيث حجم مياهها في البحار والمحيطات بعد الولايات المتحدة الأمريكية. ونظرا لأهمية البحار والمحيطات في احتداد مشاكل التغير المناخي وانعكاساته السلبية وأهميتها في إيجاد حلول كثيرة لعدة قضايا لديها علاقة مثلا بالتغذية والتنوع الحيوي والطاقة، كان لابد أن يعزز ماكرون في الهندسة المتصلة بعلاقة البيئة والتنمية في الحكومة الجديدة الأطر التي تُعنى بهذه القضايا بدل تحجيمها. بمعنى آخر كان على رئيس الدولة على الأقل الإبقاء على وزارة تُعنى بالبحر.
وبرغم الانتقادات الكثيرة التي صدرت عن عدة أطراف فرنسية وغير فرنسية تهتم بملف البيئة والتنمية بشأن الإطار الحكومي الجديد الذي استحدثه الرئيس ماكرون للتعامل مع الملف خلال فترته الرئاسية المقبلة، يقول عدد من الخبراء منهم جان فرانسوا جوليار مدير عام فرع منظمة ” السلام الأخضر” في فرنسا إن الخطوات الأولى التي ستُقدم عليها الحكومة الفرنسية الجديدة في هذا المضمار ستكون فعلا مؤشرا عما إذا كان ماكرون الثاني يرغب في إحداث اختراق حقيقي أم أنه سيواصل سياسة الاكتفاء بالخطب المعسولة و التي أُخذت عليه حتى الآن.
*د. حسان التليلي : خبير مختص في قضايا البيئة والتنمية المستدامة