ما نحتاجه لتحقيق السلام والازدهار على المدى الطويل
آفاق بيئية : مارغريت كوهلود *
واشنطن – تُعتبر حرب روسيا على أوكرانيا كارثة إنسانية تنتهك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي، وقد أدت إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في جميع أنحاء العالم. كما تُعد أحدث مظهر من مظاهر النظام العالمي الذي لا يحسن الوضع البشري. تكشف استجاباتنا غير الفعالة لتغير المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، وجائحة فيروس كوفيد 19، وارتفاع تكاليف الطاقة والمواد الغذائية، والحرب عن حاجة الأنظمة الدولية المُلحة إلى إعادة تصميم سياساتها.
لقد واجَهَنا النموذج الاقتصادي القائم على السعي لتحقيق الإنتاج والاستهلاك غير المُحددين بتدهور المناخ والنظام البيئي. وتؤكد أحدث التقارير الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ على حدة أزمة المناخ وتضاؤل الفرص لتحقيق تنمية أكثر قدرة على التكيف مع تغير المناخ.
يتعين على الحكومات الوفاء بتعهداتها بهدف توجيه الدعم العام نحو الاستثمار في الطاقة النظيفة ونشرها، والإلغاء التدريجي للإعانات المُخصصة لدعم الوقود الأحفوري. لكن الحرب في أوكرانيا كانت سببًا في زيادة الضغوط على السلطات المالية لحملها على الحفاظ على، وحتى زيادة، الدعم للوقود الأحفوري والزراعة المُكثفة القائمة على التدابير الحمائية. لذلك، يتعين على صُناع السياسات إدراك أن الأزمة الحالية تُشكل فرصة للاستثمار في انتقال أسرع إلى الطاقة النظيفة والزراعة المرنة – وكل هذا من شأنه أن يخلق فرص عمل مراعية للبيئة في هذه العملية.
يجب أن تُركز عمليات التمويل المُتعلقة بالمناخ على البلدان الأكثر تضررًا جراء تغير المناخ والأقل قدرة على التصدي له. فقد تسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة بالفعل في خلق صعوبات بالنسبة للبلدان الفقيرة قبل الحرب. واليوم، تهدد الأسعار المرتفعة بحدوث أزمة أمن غذائي قد يصعب على برنامج الأغذية العالمي معالجتها، نظرًا إلى أنه قد حصل تاريخياً على أكثر من نصف احتياجاته من القمح من أوكرانيا.
يُعد السلام ضروريًا لضمان ازدهار جميع المجتمعات والطبيعة. لكن السلام والازدهار على المدى الطويل يعتمدان بدورهما على قدرتنا على خلق اقتصاد عالمي عادل صديق للطبيعة وبصافي صفر من الانبعاثات. في هذا الأسبوع وفي الأشهر المقبلة، سوف تسنح الفرصة للحكومات والمنظمات المتعددة الأطراف مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لوضع الأساس لتحقيق هذه الرؤية.
يمكن أن يساعد صندوق المرونة والاستدامة الذي اقترحه صندوق النقد الدولي في ضمان توجيه مبلغ 650 مليار دولار المُخصص مؤخرًا في شكل حقوق السحب الخاصة (الأصول الاحتياطية للصندوق) تمويلًا أكثر مرونة وفعالية من حيث التكلفة إلى أشد البلدان تأثرًا. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تساعد زيادة التمويل الإنمائي في توسيع نطاق التصنيع والعمالة المراعيان للبيئة، مع دعم تلك البلدان في التحول بعيدًا عن الصناعات كثيفة الكربون.
من جانبه، يتعين على البنك الدولي استخدام نفوذه المالي لتمويل انتقال أسرع وأكثر إنصافًا في مجال الطاقة النظيفة. كما ينبغي له أن يدعم البلدان التي تعاني من الجائحة، والآثار المادية المترتبة على تغير المناخ، والصدمات الاقتصادية الناجمة عن الحرب من خلال التعهد بقدر أكبر من الالتزام بتمويل جهود التكيف، وتسهيل الإقراض بشروط مُيسرة، واستخدام أدوات تخفيف المخاطر للمساعدة في حشد المزيد من التمويل الخاص.
بالإضافة إلى دعم الانتقال العادل، فإن تحويل النظام الاقتصادي والمالي العالمي يعني تغيير “قواعد اللعبة”. يجب تقييم الموارد الطبيعية وخدمات الطبيعة بشكل صحيح، والكشف عن العوامل الخارجية وتسعيرها ودمجها بشكل صحيح في الأسواق المالية.
نحتاج أيضًا إلى تغيير طريقة قياسنا للتقدم، لأن الناتج المحلي الإجمالي لم يعد مناسبًا للغرض. وبدلاً من مساعدتنا في معالجة أكبر مشاكلنا، فإنه يساهم فيها من خلال تشجيع الاستهلاك المفرط. إن استبدال الناتج المحلي الإجمالي بمعيار جديد يتتبع الرفاهية والازدهار عبر الأجيال من شأنه أن يشجع الاستثمار في رأس المال الطبيعي والاجتماعي، فضلاً عن الانتقال إلى اقتصاد عالمي صديق للطبيعة يحترم ويعمل ضمن حدود المحيط الحيوي. كان من المفترض أن تعمل أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة على تحقيق هذه الغاية، لكن لا يزال يتعين علينا مواكبة هذه الالتزامات باتخاذ إجراءات فعلية وملموسة.
إن التوصل إلى إجماع بشأن القواعد الجديدة سوف يتطلب إنشاء لجنة عالمية جديدة معنية بالاقتصاد والطبيعة – من خلال عقد مؤتمر بريتون وودز جديد للجمع بين الحكومة والشركات وإدارة الشؤون المالية والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني. يجب أن نعترف بأن اقتصاداتنا تعتمد على الطبيعة وتُعد جزءًا لا يتجزأ منها. كما يجب علينا تحديث هياكل إدارة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتعرف على القوة الاقتصادية للأسواق الناشئة، مما يمنح فرصًا أكبر (والمزيد من الدعم) للبلدان المُمثلة تمثيلاً ناقصًا.
ومن أجل إقناع الشركات والمستثمرين بتحويل رأس المال نحو أنشطة منخفضة الكربون وشاملة اجتماعيًا وصديقة للبيئة، يجب على الحكومات دمج الأنظمة الطبيعية والاجتماعية في عملية صنع قراراتهم. وهذا هو السبيل الوحيد لمواءمة السياسات المالية وغيرها من السياسات الاقتصادية مع المناخ الدولي والبيئة والأهداف الإنمائية. وينبغي أن تشمل هذه العملية نشر معلومات عن مخزون رأس المال الطبيعي وما يرتبط به من مخاطر والتزامات واحتياجات استثمارية في تقارير الميزانية السنوية. وعلاوة على ذلك، يجب توحيد تقارير الشركات عن المخاطر المتعلقة بالمناخ والطبيعة (بناءً على توصيات فرقة العمل المعنية بالإقرارات المالية المتعلقة بالمناخ، وفي نهاية المطاف، فرقة العمل المعنية بالإقرارات المالية المتعلقة بالطبيعة) وجعلها إلزامية بالنسبة للشركات والمؤسسات المالية.
وينبغي زيادة الاستثمار في تحقيق صافي الانبعاثات الصفرية، والعمل الصديق للطبيعة، وإلغاء الإعانات الضارة بالبيئة. إن عكس الخسائر التي تكبدتها الطبيعة سيكلف 700 مليار دولار سنويًا، لكن هذا لا يُشكل سوى جزء بسيط من تكاليف إعانات دعم الوقود الأحفوري البالغة 5.9 تريليون دولار. يجب استخدام نفس النوع من التدخل الاقتصادي الجريء الذي تم استخدامه لإدارة الجائحة لمواجهة تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي. ومع زيادة اعتماد العديد من البلدان على الاقتراض للتعافي من الجائحة، فقد حان الوقت الآن لتوسيع شبكة الأمان المالي العالمية، وتعزيز أسواق الديون السيادية الخضراء، ودعم استخدام الأدوات المالية الجديدة مثل سندات الأداء.
ومن خلال الحد من تكاليف رأس المال بالنسبة للاقتصادات التي تستثمر في المرونة، يمكننا أيضًا دفع إصلاحات اقتصادية أوسع نطاقًا لتسريع التقدم نحو ازدهار أكثر مراعاة للبيئة وأكثر شمولاً. ومع تعرض أكثر من 44 تريليون دولار من القيمة الاقتصادية للخطر نتيجة الخسائر التي لحقت بالطبيعة، ومع الانتقال إلى صافي الانبعاثات الصفرية الذي يتطلب الاستثمار في الحلول القائمة على الطبيعة، يجب أن يكون بدء الإصلاح من أجل عالم أكثر عدلاً ومراعاة للبيئة أولوية قصوى.
وأثناء معالجة أزمتي الغذاء والطاقة الفوريتين، يتعين على وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تمهيد الطريق أمام إصلاحات طويلة الأجل. وبهذه الطريقة، سيكون لدى قادة العالم الذين سيجتمعون في مؤتمر “ستوكهولم 50+” في يونيو / حزيران المقبل، ومؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي “كوب 15” في كونمينغ في وقت لاحق من هذا العام، أساس متين للبدء في بناء الاقتصاد العالمي العادل، والخالي من الانبعاثات، والصديق للطبيعة الذي نحتاج إليه.
*مارجريت كوهلو هي قائدة الممارسات المالية العالمية في منظمة “الصندوق العالمي للحياة البرية”.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.