تجارة المناخ

محمد التفراوتي19 ديسمبر 2021آخر تحديث :
تجارة المناخ

 

 

 

 

 

آفاق بيئية : نجيب صعب*
  
كما تتمخض الحروب عن طبقة من المستفيدين تُطلق عليها تسمية «أغنياء الحرب»، فلا بد من أن تخلق معركة التصدي للتغير المناخي طبقة جديدة من تجار الكوارث قد نسميهم «أغنياء المناخ».
وإذا كان من حق الذين يستثمرون في «الاقتصاد الأخضر» الحصول على أرباح إذا أحسنوا الاختيار، وأداروا أموالهم بحكمة، فمن غير المقبول مراكمة الثروات عن طريق «تخضير» أموال التلويث، بعدما كانت الممارسة السائدة «تبييض» أموال المخدرات وغيرها من النشاطات غير المشروعة.
ما حصل مؤخراً مع محطة «أونيكس» للطاقة في هولندا يثبت أن تنفيذ الدول لالتزاماتها المناخية لن يكون سهلاً، وهو سيحتاج إلى وضع قوانين وتشريعات جديدة تمنع استخدام التدابير المناخية لتحقيق أرباح خيالية في تجارة غير عادلة. ففي عام 2015، بنَتْ شركة «إنجي» الفرنسية في مدينة روتردام محطة «أونيكس» لتوليد الكهرباء من الفحم الحجري، وتم الترويج لها في حينه على أنها من «أنظف محطات الفحم في العالم وأكثرها كفاءة». وقد حصل هذا في فترة سمعنا فيها كثيراً عبارة «الفحم النظيف»، للدلالة على حرق الفحم بأساليب أكثر فاعلية وأقل انبعاثات. لكن التجربة بينت أن هذه المحطة «الأنظف في العالم» تتسبب بحجم ضخم من التلويث والانبعاثات، بما له من آثار ضارة على الصحة والمناخ معاً. فعدا عن أن الانبعاثات الكربونية من هذه المحطة تمنع هولندا من تنفيذ تعهداتها المناخية في الموعد المطلوب، فهي تساهم على نحو كبير في تلويث الهواء وتعريض صحة البشر والطبيعة للخطر.
هذا ما دفع الحكومة الهولندية إلى اتخاذ قرار عام 2018، بعد 3 سنوات فقط على بدء تشغيل المحطة الجديدة، بوقف جميع المحطات العاملة على الفحم الحجري مع حلول سنة 2030، وتزامن هذا مع إعلان ألمانيا عن إغلاق محطات الطاقة العاملة على الفحم فيها سنة 2038، وقد وجدت شركة استثمارية أميركية غامضة المُلكية في هذه التطورات فرصة ملائمة لشراء محطات عاملة بالفحم الحجري في هولندا وألمانيا بأسعار رخيصة، من بينها محطة «أونيكس». فعدا الربح من التشغيل، كانت تتطلع إلى أرباح فاحشة من التعويضات في حال إجبارها على التوقف. وقد تحقق لها هذا حين قررت الحكومة الهولندية مؤخراً الوقف الفوري لمحطة «أونيكس» تحديداً، بهدف تحقيق خفض سريع في الانبعاثات. كما أعلن الائتلاف الحكومي الجديد في ألمانيا عن تقريب موعد إغلاق محطات الفحم 8 سنوات، من 2038 إلى 2030.
البداية كانت من هولندا، حيث وافقت الحكومة على دفع مبلغ 240 مليون دولار إضافي للشركة الاستثمارية المشغلة لقاء الوقف المبكر لعملياتها. وسيكون عليها إيقاف الإنتاج كلياً خلال شهرين من سريان الاتفاق، وتفكيك المصنع خلال 3 سنوات. وقد علقت جريدة «فولكس كرانت» الهولندية على الاتفاق بأن «الشركة الاستثمارية الأميركية الغامضة، المجهولة المُلكية، كانت تعلم أنها رابحة على الجهتين: إذا استمرت في الإنتاج بالفحم الحجري، وما يرافقه من تلويث، أو طُلب منها الإقفال لقاء تعويضات كبيرة، بسبب التدابير المناخية». ويمكن اعتبار ما حصل في هولندا نموذجاً لما يمكن أن ننتظره في أماكن أخرى من العالم، حيث تستفيد المحطات العاملة على الفحم الحجري من الارتفاع في أسعار الكهرباء حالياً، تبعاً لانخفاض إمدادات الغاز، ثم تُضاعِفُ أرباحها جراء تعويضات التوقيف عن العمل.
ليس الفحم الحجري هو المجال الوحيد الذي يستثمر فيه تجار المناخ والبيئة. فقد «ألهمت» القيود على إنتاج النفايات ومعالجتها في بعض الدول فئة من تجار الكوارث لاستنباط أساليب لتصديرها إلى دول أخرى أقل تشدداً. وهذا يشمل النفايات الخطرة والسامة والنفايات المنزلية الصلبة، التي يمنع القانون الدولي تصديرها إلا إلى دول تملك التجهيزات اللازمة لمعالجتها على نحو سليم. ولتجاوز هذه العقبة، يعمد تجار النفايات إلى تصديرها كمواد أولية إلى دول في العالم الثالث، حيث تُرمى بلا معالجة. ويقبض التجار الدوليون الثمن من تجار محليين، يعملون تحت ستار شركات لتصنيع النفايات. وقد أخبرني أحد كبار المسؤولين الدوليين عن هذا الملف أن حجم التجارة الدولية غير المشروعة في النفايات قد يفوق تجارة المخدرات. وتحت ستار توفير طاقة نظيفة من الشمس، تعمد بعض الشركات إلى تسويق لاقطات بنوعية رديئة، تستخدم مواد أولية مستخرجة بأساليب تستنزف موارد الطبيعة وتلوثُها بلا قيود، ومصنعة بمواصفات سيئة، مما يجعلها متدنية الكفاءة وعرضة للتلف خلال فترة قصيرة. وهذا يؤدي إلى زيادة في هدر الموارد والتلويث بالنفايات، بمقدار أكبر من الفائدة المرجوة من إنتاج طاقة نظيفة متجددة. كما تكاثرت مثل الفطر الشركات الوهمية اللاهثة وراء هبات بتمويل دولي لمشاريع وبرامج حماية البيئة والتصدي لتغير المناخ، بينما تنحصر الاستفادة منها بمجموعة من التجار والنافذين السياسيين.
ويتحجج البعض بمفهوم «الاقتصاد الدائري»، الذي يقوم على إعادة استعمال المواد وتصنيع فضلاتها من جديد، للتقليل من أهمية ترشيد الاستهلاك لتخفيض الكمية من الأساس. فالنفايات في مفهومهم المغلوط «ثروة» يمكن استثمارها. وهذا أدى إلى نشوء صنف جديد من تجار تدوير النفايات، الذين يأخذون منها فقط ما خف وزنه وغلا ثمنه، ويرمون الباقي بلا معالجة. وتجارة البلاستيك المستعمل دليل على هذا، إذ يتم تصدير نحو 400 مليون طن منه سنوياً إلى دول تعتمد معايير أدنى وتوفر عمالة أرخص للفرز اليدوي، علماً بأن كميات ضخمة من البلاستيك المصدر غير صالحة لإعادة التصنيع.
من الضروري وضع قيود قانونية صارمة تمنع تحويل تدابير حماية البيئة والتصدي لتغير المناخ إلى وسيلة بيد مصطادي الفرص، فيسيطر «أغنياء المناخ» على حساب «فقراء المناخ».

* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!