آفاق بيئية نجيب صعب*
القضايا التي حاصرت بعض كبريات شركات النفط في العالم، في المحاكم وداخل مجالس الإدارة، أثبتت بما لا يقبل الشك أنها لن تستطيع بعد اليوم، مهما بلغ جبروتها، الهرب من الخضوع لمقتضيات العلم والقانون وضغط الرأي العام. كما أظهرت التطوّرات الأخيرة صوابية السياسات الاستباقية التي أعلنتها المملكة العربية السعودية، أكبر مصدّر للنفط في العالم، ليس فقط في مجال الالتزام بمندرجات اتفاقية باريس المناخية وتخفيض الانبعاثات الكربونية من الصناعات النفطية، بل عبر المشاركة في استنباط الحلول. وتجلّى هذا في مبادرات «اقتصاد الكربون الدائري» و«السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر». فقد تبين أن المستقبل هو للدول والشركات التي أعدّت نفسها لدخول عصر جديد، تحتل فيه البيئة والتغير المناخي والإدارة المتوازنة للموارد الطبيعية المراتب الأولى في جدول الأعمال.
الحكم الذي صدر عن محكمة هولندية لإجبار شركة «شل» على إخضاع عملياتها لمندرجات اتفاقية باريس شكّل سابقة في هذا المجال. فللمرة الأولى يصدر عن محكمة وطنية قرار يطلب من شركة خاصة الالتزام بأقصى الشروط التي يتطلبها تحقيق أهداف اتفاقية دولية. ففي العادة، تقع مسؤولية تطبيق الاتفاقيات الدولية على الحكومات، التي تلجأ إلى وضع قوانين، وفرض ضرائب ورسوم على جميع المعنيين، لضمان تنفيذ الالتزامات. في هذه الحال، ادّعت مجموعة من المنظمات البيئية غير الحكومية، بمشاركة 17 ألف مواطن هولندي، على شركة «شل» لإجبارها على اتخاذ إجراءات تكفل تسريع خفض الانبعاثات الكربونية من عملياتها، بما فيها عمليات الموردين والزبائن، بنسبة 45 في المائة مع حلول سنة 2030. ولم يشفع للشركة التزامها المسبق بخفض 20 في المائة سنة 2030، و45 في المائة سنة 2035، وصولاً إلى صفر انبعاثات مع حلول سنة 2050.
محامو الشركة اعترضوا، على أساس أن «شل» شركة عالمية تتنافس مع شركات أخرى في المجال نفسه، لذا فإن إخضاعها منفردة لقيود يقلل من فرص المنافسة. لكنّ المشتكين ردوا بأن «شل» دعمت في السابق حملة توعية قامت بها الحكومة الهولندية تحت شعار «البيئة الأفضل تبدأ بك أنت». وإذا كان هذا الشعار ينطبق على الأفراد، فحري أن تلتزم به الشركات أيضاً، ولو على حساب تخفيض أرباحها. وقال المدعون إنه بينما كان الهدف الأول للشركات في الماضي تحقيق الأرباح للمستثمرين، فقد حان الوقت لتبدأ بإشراك المجتمع والبيئة في العائدات. الأكيد أن «شل» ستستأنف الحكم، ومن المرجح أن تقرر محكمة عليا وقف مفاعيله. لكن مجرد صدوره يرسل إشارة قوية بتغيير جذري في النظر إلى هذه الأمور، وإلى أن شركات كبرى كانت تُعتبر بمثابة مؤسسات وطنية «مقدسة» ممنوع المس بها، حماية للاقتصاد الوطني، أصبحت تحت حكم القانون والمساءلة الشعبية. وفي حين كانت المحاكم ترفض مجرد النظر في دعاوى كهذه باعتبار أن مقدميها ليسوا متضررين مباشرة، فقد اعتبر القضاة الهولنديون أن كل متضرر من تغير المناخ هو صاحب علاقة. وفي اليوم نفسه لصدور الحكم ضد «شل»، صوّت المستثمرون في شركة «شيفرون» النفطية الأميركية على قرار بتخفيض الانبعاثات الكربونية الناجمة عن عمليات زبائنها.
الشباب الذين قدموا شهاداتهم في المحكمة اتهموا «شل» بتدمير مستقبلهم، لتقصيرها في العمل المناخي. وقبل شهور أصدرت محكمة هولندية حكماً مبرماً حمّل «شل» مسؤولية التخريب الذي سببته عملياتها في حوض نهر «النيجر»، وأمرَتْها بدفع تعويضات للفلاحين المتضررين.
المفارقة أن تواجه شركتا «شل» و«شيفرون» بالذات وضعاً كهذا، وهما رائدتان في ولوج سوق الطاقة المتجددة والنظيفة منذ أكثر من 20 عاماً، فضلاً عن أنهما معروفتان بدعم برامج المسؤولية الاجتماعية حول العالم، بما يتجاوز معظم الشركات المنافسة. لكن يبدو أن الإجراءات الوسطية لم تعدْ تكفي، والمطلوب اليوم التزام كامل بالتصدي الجدي للتغير المناخي.
وإذا كان السجل المناخي المعتدل لشركتي «شل» و«شيفرون» لم يصد عنهما عاصفة المطالبة بإجراءات أكبر وأسرع، فإن شركة «إكسون موبيل» تعرضت لانقلاب نفذه فريق من المستثمرين داخل مجلس إدارتها. فقد استند المعترضون إلى الأداء السيئ للشركة، خلال السنوات الأخيرة، بسبب التوسع الكبير لاستثماراتها في الطاقة التقليدية، وإهمال برامج الكفاءة وتخفيض الانبعاثات الكربونية، إلى جانب الطاقات المتجددة. ونجحوا في إقناع أكثرية من المساهمين بأن تراجع أعمال الشركة وخسارتها 20 مليار دولار عام 2020 يعودان إلى التأخر في تنويع النشاطات وعدم الدخول في أسواق الطاقة المتجددة ومعالجة الانبعاثات الكربونية، إضافة إلى التقصير في برامج المسؤولية الاجتماعية. وكان مفاجئاً نجاح الحملة في إيصال مرشحيها، وهم من الناشطين في مجالات العمل المناخي، إلى عضوية مجلس الإدارة، رغم أن «إكسون» قامت بحملة علاقات عامة مضادة، صرفت عليها عشرات ملايين الدولارات، لإقناع المستثمرين بصوابية خططها، ولنزع المصداقية عن المحتجين، والتحذير من خطرهم على أعمال الشركة. ولا بد من أن وجود الأعضاء الجدد في مجلس الإدارة سيجبر «إكسون» على الخضوع للإشارة القوية التي أطلقها المستثمرون بوجوب إعطاء أهمية أكبر للتغير المناخي في سياسات الشركة وأعمالها.
وقد ذكّرتني الأحداث بذلك اليوم في سبتمبر (أيلول) عام 2004، حين تحدث الرئيس التنفيذي لشركة «إكسون» آنذاك، لي ريموند، في مؤتمر منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) في فيينا، معتزاً بأن شركته تحقق النسبة الأعلى من الأرباح بين شركات البترول المنافسة، لأنها «لا تضيّع الوقت والجهد والمال في تجارب الطاقات المتجددة وتخفيض الانبعاثات الكربونية». ومع أن ريموند ترك منصبه في «إكسون» عام 2005، فإنه عاش ليشهد «يوم الحساب». فرفْضه القاطع في ذلك الحين للاستثمار في الطاقة النظيفة والمتجددة وتكنولوجيات تخفيض الكربون، أوصل الشركة إلى مستويات غير مسبوقة من التراجع في الدخل اليوم.
وكان سبق حلول «يوم الحساب» لشركات القطاع الخاص إعلان «مجموعة السبع» الصناعية، التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، عن وقف تمويل مشاريع توليد الطاقة بالفحم الحجري، التي تصدر عنها انبعاثات كربونية، مع نهاية السنة الحالية. كما جددت المجموعة التزامها بخفض الانبعاثات وفق متطلبات اتفاقية باريس المناخية.
حين نصل إلى وقتٍ يصبح التقصير في العمل المناخي سبباً لخسارة أعضاء في مجلس إدارة شركة نفطية كبرى مقاعدهم، فهذا يعني أن زمن «العمل كالمعتاد» انتهى إلى غير رجعة.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة “البيئة والتنمية”