آفاق بيئية : نجيب صعب
“محو الأمية ” تعبير يُستخدم للإشارة إلى تلقين المبادئ الأساسية للقراءة والكتابة، أو ما يُعرف في اللهجات العامية بـ” فك الحرف”، وهذا أساسي لتأمين التواصل فيما بين البشر. أما «محو الأمية المناخية والبيئية» فهو مفهوم جديد، يقوم في جوهره على تحفيز حسن التواصل بين البشر والطبيعة. فنحن لا نستطيع التعامل بمحبة واحترام مع ما لا نفهمه.
محو الأمية المناخية والبيئية كان موضوع نداء وجهته 350 منظمة من 100 بلد إلى الحكومات الموقعة على اتفاقية باريس المناخية. وهي قد طالبتها باتخاذ إجراءات عاجلة لإدخال مواضيع المناخ والبيئة كجزء ثابت في المناهج التربوية على جميع المستويات التعليمية. فمعرفة الحقائق العلمية عن عناصر الطبيعة ومواردها، وأثر اختلال توازنها على استمرار الحياة ونوعيتها، وعواقب التلوث ونضوب الموارد الطبيعية نتيجة لأنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستدامة، ومساهمة هذه العوامل في تغير المناخ، كلها شروط أساسية لخلق أجيال قادرة على التعامل مع المتغيرات والمساهمة في صناعة مستقبل مستدام. وهذا يكون من خلال تعديل التصرفات الاستهلاكية الشخصية كما في التأثير الإيجابي على السياسات العامة.
تقف وراء المبادرة العالمية منظمة «يوم الأرض» التي استقطبت دعم هيئات بيئية وشبابية واتحادات عمالية وفلاحية وتربوية ورؤساء بلديات، يمثلون مئات الملايين. وتعمل الحملة على إيصال رسالتها بقوة إلى الحكومات، ليتم إقرار «محو الأمية المناخية والبيئية» ضمن خطة تنفيذية ملزمة في قمة المناخ الـ26 المقررة في غلاسكو (اسكوتلندا) في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
صحيح أن موضوع التربية المناخية والبيئية ليس بالجديد؛ لكن المطلوب الآن إدخاله كمادة إلزامية في المناهج التعليمية، بدل أن يكون اختيارياً، وأن يترافق مع تطبيقات عملية على الأرض، ونشاطات تنقل الأفكار إلى المجتمع الواسع خارج المدرسة، وذلك بالمشاركة المدنية الفاعلة.
بدأت البيئة تأخذ مكانة أكبر في المناهج المدرسية العربية خلال السنوات الأخيرة. غير أنها لا تزال في الغالب محصورة في جمال الطبيعة والتلوث والنظافة، وهي أمور مهمة؛ لكنها لا تُغني عن مواضيع مثل تغير المناخ والكوارث وأنماط الاستهلاك وعلاقة الأمن الغذائي بالبيئة والاقتصاد الأخضر. ومن الضروري أيضاً إدخال التحديات البيئية المحلية الكبرى التي تواجه المنطقة العربية – مثل ندرة المياه، والجفاف، وتلوث هواء المدن، والتلوث البحري، وتدهور المناطق الطبيعية بترابها وحيوانها ونباتها، ومخاطر ارتفاع سطح البحر بسبب التغير المناخي – في المناهج المدرسية.
وكان المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) الذي يشارك في الحملة العالمية لمحو الأمية المناخية والبيئية، قد وضع خريطة طريق لدمج البيئة في المناهج المدرسية والجامعية العربية، في تقرير شامل أصدره العام الماضي حول الموضوع. كما أطلق مبادرة مع جامعات عربية من أعضائه، تهدف إلى إدخال مقرر دراسي بيئي إجباري لطلاب السنة الجامعية الأولى من جميع الاختصاصات، تحت عنوان «مقدمة في البيئة والتنمية المستدامة». ويَجمع هذا المقرر بين المعلومات العامة ودراسات الحالة والتطبيقات الميدانية. وهذا يضع موضوع البيئة والاستدامة في مستوى واحد مع مواضيع أساسية تُعطى لطلاب السنة الأولى في الجامعات، مهما كان اختصاصهم، مثل اللغة وتاريخ الحضارة.
مع انتهاء المقرر في ختام الفصل الدراسي، يكتسب الطالب فهماً أفضل للمفاهيم البيئية الأساسية وصِلاتها بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والمشكلات المرتبطة بها، والتحديات التي تواجه البيئة وكيف يمكن حلها عن طريق تطبيق مبادئ التنمية المستدامة والانتقال إلى النمو الأخضر. كما يعرض المقرر للخدمات التي تقدمها الطبيعة، مع اكتساب المعرفة والمهارات والدوافع الأخلاقية والاجتماعية، للاهتمام بالبيئة والمشاركة الفعالة في تحسينها وحمايتها. ويمنح الطالب فهماً أفضل للموارد الطبيعية وكيفية توزيعها بعدالة وتجديدها، من خلال التوازن بينها وبين حاجات الإنسان. ويعرض للعلاقة التاريخية بين الإنسان والبيئة، وتطور مفهوم الاستدامة. وبالتوازي مع المعلومات، يكتسب الطالب المهارات الأساسية لإجراء البحوث الأكاديمية والكتابة التقنية عن المواضيع المتعلقة بالبيئة. وهذا يساعد الطالب في اختيار اختصاص معين أو مهنة محددة.
في التفاصيل، يتضمن المقرر 11 عنواناً أساسياً، تغطي 11 أسبوعاً من ثلاث ساعات صَفِّية في الأسبوع. وهذه تشمل: الخلفية والتعريفات الأساسية، بما فيها مفاهيم القدرة الاستيعابية والتلوث والبصمة البيئية والعلاقة بين الصحة البشرية والبيئة. وينتقل إلى تطور التنمية المستدامة وأهدافها لسنة 2030، والنمو الأخضر كأساس لخطة تنفيذية. ثم يعرض للتنوع البيولوجي وأهميته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والأخطار المحدقة به. ويستعرض أهمية الزراعة والأمن الغذائي، بما فيها ندرة المياه وكفاءة الري وتدهور الأراضي والتأثيرات البيئية للمواد الكيميائية الزراعية من أسمدة ومبيدات، والمحاصيل المعدلة وراثياً. وينتقل إلى مصادر المياه العذبة وإدارتها المتكاملة، ومصادر الطاقة من أحفورية ونووية ومتجددة، مع التركيز على الآثار البيئية والترابط ما بين المياه والطاقة والغذاء. ويصل إلى إدارة النفايات، مع التركيز على أهمية الاقتصاد الدائري، إلى جانب الحلول التكنولوجية المتاحة. ويعرض لنوعية الهواء ومصادر التلوث، والآثار البيئية لاستخدامات الأراضي وتوسع المدن؛ خصوصاً في مجال النفايات والمياه والصرف الصحي ووسائل النقل وتلوث الهواء.
وبعد استعراضه للعناوين التفصيلية، يطرح المقرر القضايا البيئية العالمية الرئيسية، شاملاً تغير المناخ واستنفاد طبقة الأوزون والتصحر والمحيطات. وينتهي ببحث السياسات والحوكمة البيئية، من مؤسسات وقوانين وتشريعات وطنية، واتفاقيات ومعاهدات دولية.
فوائد القضاء على الأمية البيئية، من المدرسة إلى الجامعة، لا تقتصر على تحفيز سلوكيات أفضل؛ بل تُعِد الطالب علمياً لعصر جديد. فالتغير المناخي المحتوم والضغط الخطِر على الموارد الطبيعية المحدودة يتطلبان التوجه بالكامل نحو اقتصاد دائري، يقوم على استثمار رشيد للموارد الطبيعية، بالتوازي مع تجديدها. وهذا يحتاج إلى مهارات تعتمد أسساً علمية جديدة. الخروج من الأمية البيئية يتيح للطالب الانخراط في اختصاصات تفتح له فرص العمل في الاقتصاد الجديد، سواءً في الطاقة أو المياه أو تقنيات البناء والمواصلات أو إدارة الغابات والبحار والأراضي. ولن يكون مكان في سوق العمل الجديد لأميين بيئيين.
*الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة “البيئة والتنمية”