آفاق بيئية : ذ محمد بادرة
الديموقراطية بمفهومها العام هي العملية السلمية لتداول السلطة بين الافراد او الجماعات وتؤدي الى تحديث المجتمع ودمقرطة وبناء الدولة المدنية، دولة الحق والقانون والمؤسسات مع اقامة نظام اجتماعي عادل يؤمن به ويسير عليه المجتمع ككل على شكل اخلاقيات اجتماعية.
والديموقراطية السياسية بجذرها العلماني ونسغها الانساني تعني انبثاق السلطة عن الشعب بالانتخاب الحر المباشر او غير المباشر(وعن طريق نظام للتصويت والتمثيل النيابي) كما تعني حرية الراي والفكر والانتماء والاعتقاد، وحرية الصحافة والنشر، وحرية تشكيل الاحزاب السياسية والجمعيات وصيانة حقوق الانسان التي نصت عليها المواثيق الدولية، وهي اذ تعني حكم الاكثرية وحرية الاقلية وحقها في المعارضة، ويعني ذلك كله التداول السلمي للسلطة وتمدين السياسة والمجتمع.
لكن في الوقت الذي يمكن فيه ان يكون للمجتمع الديموقراطي حكومة ديموقراطية فان وجود حكومة ديموقراطية لا يعني بالضرورة وجود مجتمع ديموقراطي. والحال انه في الآونة الاخيرة كثرت النقاشات والتحليلات والعديد من الدراسات حول “ديموقراطيتنا” الفتية، اضاءت لنا هذه الدراسات مختلف جوانب هذه ” الديموقراطية” بمفاهيمها التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لكن كثر الحديث اساسا عن “ازمة الديموقراطية” لدينا و البعض من هذه الكتابات كانت محكومة بنظرة اكاديمية تجزيئية عجزت عن ادراك المسالة الديموقراطية وابتعدت عن ربط هذه المسالة في سياق جدلية التطور التاريخي وكذا غياب الاشارة الى ازمة الاحزاب وازمة الفكر السياسي وازمة المجتمع المدني واخفاق كل المشاريع الاصلاحية في تحديث المجتمع ودمقرطة وبناء المؤسسات.
ان “ديموقراطيتنا” اليوم تمر بأزمة لا شك فيها ومؤشرات هذه الازمة الكيفية والكمية متعددة ومتنوعة ومن المؤشرات الكيفية لهذه الازمة شيوع ظاهرة السلبية السياسية واللامبالاة بالعمل السياسي الذي يكشف عن ظاهرة اعمق في المجتمع هي ظاهرة الاغتراب والجمود السياسي.
ومن المؤشرات الكمية العامة نسبة الناخبين الفعليين سواء في الاستفتاءات الدستورية او في الانتخابات الجماعية والبرلمانية مقارنة بالعدد الاجمالي لمجموع الناخبين. كما ان من المؤشرات الكمية قلة عدد الاعضاء المنخرطين او المنضوين في الاحزاب السياسية سواء في احزاب الاغلبية او احزاب المعارضة مما يكشف عن ازمة حادة في المشاركة السياسية مع اجتياح موجة كبيرة من خيبات الامل وسط الراي العام المغربي على ان ديموقراطيتنا خيبت امالهم.
لماذا؟؟
هل بسبب خيانتنا للممارسة الديموقراطية؟ هل بسبب الفجوة بين النصوص التشريعية والممارسة الفعلية على ارض الواقع وسوء تطبيق القوانين؟ هل بسبب قوة وهيمنة الايديولوجية الرسمية المسيطرة على كل حركات المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؟ هل بسبب تعارض الاحزاب السياسية فيما بينها؟ ام ان هذه الاحزاب ليست لها اهداف غير نفسها حيث التنظيم الحزبي اصبح علة وجود التنظيم فجميع هذه الاحزاب تدعي الرغبة في الدفاع عن الصالح العام لكن الكل في الواقع لا يدافع الا عن قوته الخاصة ولا يعطي الاولوية في تفكيره الا لمسالة توسيع مجال نفوذه.
واسترجاعا لصفحة من تاريخنا السياسي الحديث قامت الدولة في فترة من فترات الحجر السياسي بإزاحة حزب من الاحزاب الوطنية الديموقراطية( الاتحاد الوطني للقوات الشعبية – الاتحاد الاشتراكي ) من مركز اتخاذ القرار مما ادخل الاحزاب في مرحلة متدهورة كمؤسسات سياسية وطنية، فتحول بعضها الى ” جماعات مصالح ” او” ائتلافات شخصية ” تبحث عن مصالح ضيقة ولم يعد لها اي دور سياسي واضح غير الموالاة والتبعية للتوجهات وللقرارات السياسة الرسمية فضاع زمن سياسي غير يسير ضاعت فيه الامكانيات الكبرى لصياغة مدخل تأليفي للتصدي لازمة الديموقراطية في بلدنا بسبب تدخل الجهاز الاداري في توجيه المسار السياسي.
ان الانتقال المنشود من مرحلة الديموقراطية الشكلية الى مرحلة الديموقراطية المؤسساتية تتطلب القيام بإصلاحات دستورية وسياسية حقيقية لان الديموقراطية ليست مجرد اسلوب حياة او نظام حكم فهي قبل كل شيء مؤسسات وتنظيمات وعمليات في التنشئة الاجتماعية والسياسة تسمح للجماهير ان تشارك وتعبر عن آرائها مهما اختلفت وتنوعت.
فماذا يمنعنا عن ذلك؟ هل هناك محرمات سياسية واجتماعية تحول دون تحقيق ديموقراطية سليمة ؟
اننا قد نستعرض عددا من المسببات التي ادت وتؤدي الى حدوث هذا النكوص او السقوط “الديموقراطي” ومنها :
1- استعمال الرشوة و المال الحرام يفقد الديموقراطية مصداقيتها
ان القوانين المنظمة لكل الاستشارات الشعبية في الانتخابات والاستفتاءات تحمل ثغرات وعيوبا تسهل على خصوم الديموقراطية ممارسة الغش والتزوير والتلاعب بإرادة الشعب
بسبب استفحال الرشوة والتوظيف المكثف للمال الحرام في الاقتراعات الانتخابية وهذا اخطر من ان يعالج بشكل سطحي او بواسطة اجراءات ومؤسسات شكلية، وهذا ما يبرر غياب الارادة الجماعية من الدولة ومن الاحزاب في احداث قطيعة مع ظاهرة الرشوة المنتشرة بشكل نسقي. ومن شان استفحال هذه الظاهرة ان لا يشجع ذلك على المشاركة الفعلية في الاستحقاقات الانتخابية وتوطيد مشروعية المؤسسات التمثيلية.
ان النصوص القانونية والتنظيمية التي يتم اعتمادها نصا لا تطبيقا او تلك التي تنتظر الخروج من ثلاجة الحكومة والبرلمان قد ساعدت في تأبيد وتمديد حالة الجمود السياسي وضعف مردودية المؤسسات التمثيلية…وهي مؤسسات لا تستطيع ان تتحمل اي مسؤولية في تطويق الازمات المتتالية على بلادنا، وهي ازمات يعرفها الشعب قبل ان تتحدث عنها المؤسسات التمويلية الدولية، ويعرفها الشعب قبل المسؤولين لأنه يكتوي بنارها.
ان يكون المال من الاولويات عند اي مرشح حزبي للانتخابات في نظام ديموقراطي ليبرالي او غير ليبرالي، فهذا ما نعرفه في نظام الانتخابات الامريكية والغربية عموما سواء اكان المرشح هو مالك هذا المال ام كانت الاحزاب تعبئه لصالح المرشحين .. لكن ذلك يكون تحت مراقبة مؤسسات دستورية حتى لا يهيمن طرف على اخر بقوة نفوده المالي لا السياسي. غير ان الذي يحصل هو ان النفود المالي يهيمن على المناخ السياسي والانتخابي ويحول اللعبة الديموقراطية الى صراع المالكين للمال والنفود ضد غير المالكين وبذلك نكون وكأنه تعود بنا اللعبة الديموقراطية الى عهدها الاغريقي (الاسياد والعبيد).
ولقد لخص سيرج كريستوف كولم هذا الوضع بالصيغة القاسية التالية ( حتى يتم انتخاب المرشح بأغلبية الاصوات فاضمن سبيل ان يتم انتخابه اولا بأغلبية الفرنكات).
انه اذا كانت جهات ما تعتمد المال للتأثير في العملية الديموقراطية وبالتالي توجيه العمل السياسي فمن المؤكد ان هناك امكانية لتعويض الحضور المادي والمالي في الانتخابات بالنشاط النضالي خصوصا لذى الاحزاب التي تنشط على مستوى القاعدة الجماهيرية وفي صفوف العمال والفئات الاجتماعية الهشة كالأحزاب اليسارية (العدالة الاجتماعية) والراديكالية التي تحمل افكارا متشددة او جذرية، ولقد لاحظ سيرج كريستوف كولم انه ( كلما اتجهنا يسارا او تطرفنا يمينا ويسارا وجدنا اشخاصا مستعدين لوهب اموالهم وانفسهم دفاعا عن رايهم ).
ومن البديهي ان يرافق الفساد الانتخابي والفضائح المالية وضعا يكون فيه المال هو المتحكم في الاستشارات والانتخابات، بل هناك من يحاول ان يبرر ذلك بالقول بان مزية الديموقراطية تكمن في انها تسمح بتفجير الفضائح مما يمثل دليلا على ان الاعلام في مناخ ديموقراطي يكون (حرا)، والواقع ان هذا الاسلوب غريب تعتمده (الديموقراطيات لتجعل من عيوبها امجادا )، ومن الممكن ان نتساءل ايضا عما اذا لم تكن التشريعات والقوانين الانتخابية بطبيعتها هي ما يساعد على قيام هذه الفضائح، وقد اكد مونتسكيو(ان الديموقراطيات مهددة بالفساد اكثر بكثير من غيرها من الانظمة نظرا لان السلطة في الديموقراطيات اكثر خفاء وبالتالي فان عدد المفسدين هو بالضرورة اكثر)- عظمة الرومان وانحطاطهم – الفصل 3
ويقول الكاتب ذو النزعة الماركسية – فرانسوا بيرو- ان (المال هو الذي يملك السلطة في الديموقراطية الشكلية وستبقى ديمقراطية القرن العشرين حبرا على ورق مادامت لم تتجاوز الاقتصاد الرأسمالي والاشكال البورجوازية لليبرالية البرلمانية).
ان رهان الديموقراطية في بلدنا ان تكون المؤسسات التمثيلية منتخبة بكيفية نزيهة وحرة بعيدة عن اي تأثير للمال الحرام الذي يفسد اللعبة والممارسة الديموقراطية ويخونها.
2- الجمود السياسي …بداية انحطاط الديموقراطية
الجمود السياسي ظاهرة سلوكية في تخلف العمل السياسي تساعد على نمو التطرف والتعصب، ويقول موريس جونس في هذا الشأن انه ( كلما انحطت الحياة السياسية بدا العنف والارهاب وكأنهما الوسيلة الفضلى لإيقاظ الراي العام المخدر الذي لا قدرة له على التدخل في المجريات وبذلك يصبح الجمود دعامة فعلية للتطرف).
ومن النتائج السلبية للجمود السياسي استحواذ واستحكام المستحوذين الفعليين على السلطة فيعملون على عرقلة قواعد واصول الديموقراطية، ويختلسون السلطة ويقيمون انتخابات شكلية ويحولون طقوسها الى حفل والهاء نفسي واجتماعي لا تعكس الوجه الحقيقي للتصويت السيادي، فيزداد فقدان الثقة بالاقتراع وبالأحزاب وبالمرشحين، والدليل على ذلك ان عدد الممتنعين عن التصويت يتكاثر فترة انتخابية بعد اخرى وقد يفوق احيانا عددهم اعداد المصوتين. فماذا يعني هذا؟ انه اللامبالاة بالعملية السياسية وبالتجربة الديموقراطية وهو مدخل الى الياس والجمود.
ان اولئك الذين يعملون على نشر( اللاتسييس ) انما يهدفون الى تحويل الديموقراطية الى نموذج تكنوقراطي لا يخضع فيه القرار السيادي للمقاييس الشرعية الديموقراطية، وهم بعملهم هذا يستثيرون ردود فعل رافضة لا يمكن لاحد ان يتوقع نتائجها فقد يؤدي الحجر على الديموقراطية الى نهاية الديموقراطية، وفي هذا السياق صرح ميشال دوبري في احد استجواباته مع مجلة فرنسية ( ان اكثر ما اعيبه على الطبقة السياسية الحالية هو اجبارها الافراد الذين يؤمنون بالديموقراطية على طرح تساؤلات حولها…) لأجل التشكيك.
ان اخطر ما في النظم الديموقراطية هو تحولها الى اجهزة ومؤسسات تعيد انتاج سلطات تنفيذية وتشريعية لا تستطيع مواجهة المشكلات اليومية للمواطن وتقوم بتدوير هذه المشكلات بما يوحي للمواطن العادي ان لا امل في النظام السياسي لابتداع الحلول ولا قدرة للقوى السياسية على تجاوز مشكلاتها ووضع حد لتعارضات مصالحها.
حالتنا نحن تمثل نموذجا لهذه الظاهرة، فمع السقف العالي من التوقعات بغد افضل ومجتمع اكثر عدالة اجتماعية خلال بداية المسلسل الديمقراطي في منتصف السبعينيات ومنها –اقامة دولة المؤسسات – تقوية دور الاحزاب والنقابات – تقوية اجهزة المراقبة لحماية حقوق الانسان ..- وبعد سنوات القهر والجمر تولدت لذى المواطن امال عريضة بحياة رغيدة وبمرحلة سياسية يكون فيها سيد نفسه ومصيره وتمكنه من مؤسسات نزيهة قائمة بإرادته الحرة بعيدا عن اي ضغط او تزييف حتى يعوض ما فاته، لكن سرعان ما وجد نفسه محاطا بكم هائل من المشكلات وضغط يومي من الخطابات السياسية والاعلامية التي تشعره بالعجز والاحباط، مضافا لها تعملق الفساد وسلطة المال والنفود فكان حصاد ذلك خطيرا على الحالة النفسية للفرد زادته احباطا على احباط وافقدته الثقة بالزعامات وبالأحزاب بل وبالعمل السياسي والمستقبل وجعلته يفكر بخلاصه الفردي وبهموم يومه حيث لا افق مفتوح ولا امل منشود؟؟؟
ان المواطن بحاجة الى خطاب سياسي واعلامي واضح ومسؤول لا الى الاماني والرغبات والاشواق التي تتردد على الالسن او تدبج في الكتابات والخطابات الشعبوية لان الديموقراطية لن تتحقق الا اذا استدعتها موضوعية سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية تجعل منها ضرورة تاريخية تفرض نفسها على الجميع.
ان الخطاب اليائس الذي يتردد كل لحظة وكل حين عن ” الاكراهات ” وعن ” ثقل اخطاء الماضي ” يدفع الى الاعتقاد بان السياسة لم تعد مسالة اختيار وان افضل شيء يمكن ان يفعله الناخب او المواطن هو ان يولي امره للتكنوقراط، اي لأولئك الذين ” يجيدون” تدبير الشأن الاقتصادي، وهكذا يتخذ راي هؤلاء ” الخبراء ” وزنا هاما يتجاوز بكثير وزن الاحزاب والقادة وحتى الاقتراع ، ومن تم يصبح الجمود السياسي عاما فيتولد عنه التصويت السلبي او العزوف عن التصويت.
لهذا ينبغي (توفير شروط المصداقية للنشاط السياسي وضمان نزاهة القواعد المنظمة للمجتمع المدني والتي تتيح لكل هيئة او فعالية ان تعبر عن وجودها حتى تخوض معارك التنافس الديموقراطي الذي يفرضه التعدد…) عبد القادر العلمي – هاجس التغيير الديموقراطي.
كما ينبغي استنهاض الهمم ورسم خطوات العمل واصلاح واقع الحال ووضع الاهداف الكبرى وتجاوز الخلافات وتقبل الاختلافات وتعايش الايديولوجيات والبرامج الاجتماعية…لكن ما يجري في بلدنا هو خلاف ذلك، فالصراعات السياسية والخصومات الحزبية بددت ثقة الناس بالقوى السياسية واشاعت حالة اللامبالاة والعجز بما سيدفع الى فشل العملية السياسية.
ان الجمود السياسي يؤدي الى تصويتات اكثر فاكثر سلبية، وما دام انه لم تعد هناك برامج تثير شهية وحماس المواطن، وبما انه لم يعد هناك رجال سياسة وإيديولوجيا وثقافة يؤسسون لقيم الحرية والمساواة والحقوق والواجبات والمسؤولية ..اي يؤسسون للديموقراطية، فان الناخب والمواطن سيهجر ساحة العمل السياسي وساحة النضال الديموقراطي ومقاطعة الصندوق الانتخابي…وهذا ما سيسمح للفئات المعادية للديموقراطية بالتحكم والاستحكام.
3- الاعلام الموجه … الية لاستمرار التحكم ومادة لنسف الديموقراطية
يتمز العصر الحالي بانه عصر الاتصال الجماهيري حيث اصبحت كل وسائل الاعلام الحديثة من الادوات الاساسية في تزويد الافراد والجماعات والمجتمعات بالمعارف والمعلومات، وقد يمتد تأثيرها ليشمل تشكيل الآراء والاتجاهات وتغيير انماط السلوك، انه محاولة للسيطرة والتحكم في عقل الانسان وسلوكه. والحال ان الاعلام ليس معطى موضوعيا فهو اما خاضع للتوجيه او للتحريف واما حامل لمجموعة من الافكار التي تحيد بعضها بعضا من زاوية دلالاتها.
ومفهوم الاعلام هومن بين المفاهيم الاساسية في الاصول الاجرائية للديموقراطية لأنه هو القناة الاساسية لتزويد الناس بالحقائق وبقصد معاونتهم على تكوين الراي السليم ازاء مشكلة اجتماعية او اقتصادية او قضية سياسية، ودور الاعلام الصادق هو نقل ( صورة الشيء لا انشاء هذه الصورة وبالتالي فالإعلام لا يرسم سياسة الدول بل هو معبر عنها فقط).
ولذلك اعتبر مفهوم المصداقية من ابرز المفاهيم التي راجت في الكتابات او الدراسات الاعلامية، وتزايد استخدام هذا المفهوم في كل المعارك السياسية والانتخابية تأكيدا لتوافر هذه المصداقية او نفيا لها. وتفهم مصداقية الاعلام على انها صدق الوسيلة الاعلامية بصدق الرسالة الاعلامية ودقتها وعدم تحيزها، اما المقياس الأيديولوجي لمصداقية الاعلام فيعني عدم تركيز الرسالة الاعلامية على وجهة نظر واحدة وتجاهل باقي الاطراف ووجهات النظر الاخرى، اما مقياس المعرفة فيعني مدى شمولية او جزئية الاحاطة بالموضوع الذي تحمله الرسالة، واخيرا مقياس التزوير ويتعلق بمدى تحريف او دقة الرسالة الاعلامية.
لقد انشغلنا طويلا بمفاهيم مشابهة من قبيل “ديموقراطية الاعلام ” – “حرية الاعلام”-“الحق في الاتصال ” – الى غيرها من المفاهيم لكن مفهوم المصداقية يرتبط بمدى ثقة او اقتناع الجمهور بصدق الوسيلة الاعلامية من حياد ونزاهة واخلاقيات صحفية وعلى نزاهة الاعلام تتوقف الى حد بعيد نوعية القرار والاختيار، وعلى سبيل المثال لا يمكن في ظل الديموقراطية ان يتعرف المواطنون على الاحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات المجتمعية، ولا ان يصلوا الى قراءة واستقراء تاريخ المؤسسات الحزبية وغير الحزبية والوثائق التنظيمية والايديولوجية للأحزاب الا بواسطة اجهزة ووسائل الاعلام الحكومية وغير الحكومية ، فالحزب الذي لا يتكلم عنه احد لاحظ له في ان يتم التصويت عليه او يفوز في الاستحقاقات الانتخابية، والحدث الذي لا تنقله وسائل الاعلام ليس حدثا فكانه لم يحدث.
ان وسائل الاعلام تملك سلطة هائلة لأنها هي التي تقوم بتكوين الراي الذي سيعبر عن نفسه في التصويت، في حين ان اولئك الذين يقررون نوع الاعلام وتوجهه لا ينتخبون انتخابا.
فالناخبون والاحزاب نظرا لعدم توفرهم على الوسائل التي تكفل لهم تكوين رايهم يجدون انفسهم مرغمين على تولية امورهم للإعلام الموجه. والتحكم بالراي العام تتم بطرائق قريبة الصلة بتقنية التسويق والتكيف الاعلاني وهكذا فان الارادة الشعبية قد تصنعها اليوم اكثر فاكثر تقنيات تكييف الراي. يقول روبرت فيسك ان الاعلام المعاصر اصبح كالعصا السحرية التي تتعلق بالعقول وتوجهها لتبني مختلف المواقف بل اصبح للإعلام قدرة على خلق واقع وهمي جديد لا يمكن ان تراه الا من خلال الاعلام .
وهكذا فقد يجد المواطن المغربي نفسه محاصرا او مضطرا للتعامل مع وسائل الاعلام الحكومية و” الخاصة ” كالقنوات الإذاعية والتلفزيونية بأيقوناتها المختلفة وهي وسائل تخضع بصورة مباشرة او غير مباشرة للسيطرة والتوجيه الحكومي رغم ضعف مصداقية بعض هذه الاجهزة الاعلامية لدى افراد من الجمهور ” الواعي – المسيس ” وفقدان ثقتهم بها في عدد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والترفيهية وبعض هذه القضايا قد تتعرض لتوجيه اكثر صرامة وخصوصا السياسية منها والبعض الاخر قد يقل فيه هذا التوجيه – قضايا الترفيه والفن والرياضة – وبالتالي يجد المواطن نفسه امام موضوعات متحيزة وغير دقيقة ولا تلبي اهتماماته .
ان مبادئ الديموقراطية والحرية والتعددية التي لا تتجسد من خلال وسائل الاعلام الرسمية تبقى مجرد هامش محدود لتبرير الواجهة الشكلية للديموقراطية التي لا يمكن ان تحقق الغاية الجوهرية في تمكين الشعب من تسيير شؤونه وتحديد اختياراته بنفسه
ان الاعلام الديموقراطي يقوم على مبدأين اساسيين :
اولهما حق المواطن في التعرف على ما يجري في بلاده ..والارتقاء بمستواه الفكري والحضاري.
والثاني هو حق المواطن في التعبير عن قناعاته وابلاغ رايه .. والاعلام الرسمي هو الاداة المشتركة بين عامة المواطنين وينبغي ان يكون مفتوحا امام الافراد والهيئات والتيارات من مختلف المشارب والمذاهب ليصبح معبرا عن الواقع بإيجابياته وسلبياته – هاجس التغيير الديموقراطي – ع القادر العلمي – ص 51-52
واما الاعلام الحزبي اذا كان يعطي الاولوية للقضايا الحزبية فان عليه ان يبتعد عن خطاب الانفعال لان الانفعالات انما تتوجه كلها نحو ما هو ثانوي ( وقديما قال مكيافيلي ان الانفعالات هي التي تسير الانسان وليس العقل ) وعلى الاحزاب والمرشحين ان لا يستغلوا العوامل الانفعالية او التفاهات ” المذهلة” كأسلوب اعلامي للتعامل مع المواطن او الناخب لأنه اسلوب اعلامي مستورد من النظام الانتخابي الامريكي الذي يقوم على الاعلام الفضائحي.
جسد الفيلسوف جان بورديار في اطروحته ( موت الواقع) الذي نعيشه اليوم والذي هو اقرب الى الوهم منه الى الحقيقة، فالكثير من المعطيات الحالية عندما نقارنها بارض الواقع نكتشف ان الواقع مصطنع لذا ما نعيشه اليوم ما هو الا حروبا وهمية تهدد عقولنا وصنعتها الة الاعلام لتخدم اجندات مختلفة تنصب كلها لصالح الاقوى الذي يقدم نظرته وفكره في ثوب الحقيقة تارة والحرية تارة اخرى.
ان ديموقراطيتنا اليوم تواجه ثالوثا مدمرا من اعلام موجه – ومال حرام – وجمود سياسي مما يزيد من استمرار الانسداد في الوضع السياسي والانتخابي او حتى ” اغتيال الديموقراطية ” ولتحقيق ديموقراطية حقة لابد من التغلب على روح الياس والاستقالة التي تميز نخبتنا الثقافية والسياسية الراهنة لدرجة اصبح الفساد والرشوة كائنا مقبولا وامرا شائعا فلنقضي على هذا الثالوث المدمر ولنبني الوطن على ركائز الديموقراطية والحداثة والتقدم والخصوصية الثقافية والروحية.