تغير المناخ يذيب الجليد الذي يعتمد عليه شعب الإنويت في تنقلاتهم لصيد الفقم والأيائل وثيران المسك. وبقاء تراثهم مشروط بقدرتهم على التكيف مع هذا التحدي
راغدة حداد (جزيرة بانكس، منطقة القطب الشمالي)
“أريد أن أعيش حياتي كلها في هذه الجزيرة”، قال لي تريفور لوكاس الذي التقيته على جزيرة بانكس النائية في المحيط المتجمد الشمالي. وهو شاب في الثالثة والثلاثين من عمره، رافقنا كراصد للحياة البرية والبحرية على سفينة الأبحاث الكندية “أموندسن” التي أمضيت على متنها أسبوعين في صيف 2008.
تريفور من شعب الإنويت، المعروف بالاسكيمو. كان قومه على مدى الزمن من الصيادين الرحّل، يعتاشون من صيد الأسماك والفقم وثيران المسك وأيائل الرنة وإوز الثلج، ويسكنون في أكواخ الإيغلو التي يحفرونها ويبنونها في الجليد. لكن حياتهم تغيرت كثيراً منذ ستينات القرن العشرين، حين دفعتهم الحكومة الكندية الى التخلي عن حياة البداوة والاستقرار في قرى ثابتة. وأمنت لهم منازل مركّبة (prefabricated) ووقوداً للتدفئة ومدارس وخدمات طبية وغيرها من “إغراءات” الحضارة.
الإنويت اليوم لن يبدلوا الكهرباء ودفء الديزل بحياة الايغلو. لكن منتقدي السياسة الحكومية الحسنة النية يعزون تفكك تراثهم الى التحولات، ويقولون إن هناك جيلاً كاملاً من هذا الشعب لا يستطيع الاندماج في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبرّ الكندي، ولا يملك المهارات التي تؤهله للعيش في البحار المتجلدة على طريقة الآباء والأجداد.
لكن أهل الجزيرة لم يعودوا يصطادون هذه “الكوتا” التي سمحت بها الحكومة. قال لي تريفور: “غالبية الشبان مشغولون الآن بالكومبيوتر والانترنت، ولم يعودوا راغبين في الصيد. الجميع الآن يملكون هواتف ترسل عبر الأقمار الاصطناعية، وأجهزة آي بود الموسيقية، ومركبات الأراضي الوعرةATV “. أما هو فلا يهمه إلا أن يعيش صياداً طوال حياته: “أريد أن أكون في الهواء الطلق، أسرح مع الأيائل وآكل ما أصطاد”.حتى الطبيعة تغيرت في تلك الأصقاع، مع ارتفاع معدلات الحرارة وذوبان الجليد البحري وتقلص رقعته عاماً بعد عام. وهذا ما يشعر به سكان جزيرة بانكس. فالصيادون الإنويت، إذ يرتحلون على السهوب الجليدية أو يحصدون السمك من البحر، يلاحظون أصغر التغيرات في بيئتهم. والتغيرات الأخيرة كانت كبيرة ومقلقة. فهم يعتمدون على الجليد في تنقلاتهم. والجليد البحري يبدأ الآن بالتكون في الخريف متأخراً أسبوعين أو أكثر عن الماضي، والذوبان الربيعي صار يبدأ مبكراً أسبوعين أو أكثر. والجليد المعمّر بات أصغر ويرتحل بعيداً عن شاطئ القرية في الصيف، آخذاً معه الفقم التي يعتمد عليها السكان في غذائهم. وفي الشتاء، بات الجليد البحري رقيقاً ومتكسراً، ما يشكل خطراً حتى على الصيادين المتمرسين الذين يعتمدون على عبوره في تنقلاتهم. وفي الخريف أصبحت العواصف أكثر شدة وتكراراً، ما يجعل ركوب القوارب صعباً وخطراً.
الطقس الحار في الصيف يذيب طبقة الجليد الدائم تحت التربة، ما يسبب انهيارات على امتداد الشاطئ وضفاف البحيرات الداخلية. وقد أدى ذلك الى تصريف مياه إحدى بحيرات الجزيرة ونفوق أسماك مياهها العذبة. وتنزاح أسس منازل كثيرة في قرية الإنويت. وتصل الى الجزيرة أنواع جديدة من الطيور التي تحتمل الآن برودتها الأقل وطأة، مثل السنونو وأبي الحنّاء. وفي المياه القريبة، اصطاد الأهالي سمك السلمون للمرة الأولى في تاريخهم. وعلى الأرض باتت أسراب الذباب والبعوض تؤرق حياتهم وتحمل اليهم أمراضاً لم يعرفوها من قبل.
الإنويت معروفون بقدرتهم على العيش في ظروف مناخية قاسية، والتكيف مع التغيرات، والصمود حيث يعجز الآخرون. لكن تغير المناخ يمثل تهديداً مختلفاً عن كل ما واجهوه سابقاً. ولا شك أن بقاء تراثهم وطريقة حياتهم مشروط بقدرتهم على التكيف مع هذا التحدي الجديد.