آفاق بيئية : ستيفاني غريفيث جونز* وخوسيه أنطونيو أوكامبو*
في العقد التالي للأزمة المالية العالمية، شهد الدعم المقدم لبنوك التنمية الوطنية والمتعددة الأطراف نموا ملموسا. وسوف يكون النجاح المتواصل الذي تحرزه بنوك التنمية الوطنية بشكل خاص عنصرا بالغ الأهمية في تحقيق النمو الاقتصادي الأكثر استدامة في المستقبل.
تساعد بنوك التنمية في التصدي لطبيعة النظام المالي الخاص المسايرة للاتجاهات الدورية، الذي يميل إلى الإفراط في الإقراض أثناء طفرات الازدهار والاقتصاد في تقديم الائتمان خلال الأزمات. ويفشل القطاع الخاص غالبا في توفير القدر الكافي من التمويل للشركات الصغيرة والمبدعة ومشاريع البنية الأساسية. كما أنه لا يدعم القدر الكافي من الاستثمارات في الأنشطة الإبداعية، والائتمان لصغار المنتجين، والمشاريع البيئية المطلوبة بإلحاح لجعل الاقتصادات أكثر ديناميكية وشمولية واستدامة.
رغم أن الحكومات توفر رأسمالها المدفوع، فإن بنوك التنمية تجمع الأموال في أسواق رأس المال الوطنية والدولية. علاوة على ذلك، يشترك القطاع الخاص في تمويل قروض هذه البنوك، وهو أمر مفيد بشكل خاص للحكومات التي تواجه قيودا مرتبطة بالميزانية أثناء الأزمات الاقتصادية وبعدها.
الواقع أن البنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية المتعددة الأطراف زادت قروضها بشكل حاد أثناء الأزمة المالية في الفترة 2007-2009 وبعدها. وقد ضاعف بنك الاستثمار الأوروبي، أكبر بنوك التنمية المتعددة الأطراف، رأسماله المدفوع، وهو يلعب دورا رئيسيا في تنفيذ ما يسمى خطة يونكر التابعة للمفوضية الأوروبية، والتي تهدف إلى توليد 500 مليار يورو (561 مليار دولار أميركي) من الاستثمارات الإضافية في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية عام 2020. بالإضافة إلى هذا، سوف يساهم إنشاء بنكين آخرين ضخمين من بنوك التنمية المتعددة الأطراف ــ البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية وبنك التنمية الجديد الذي أسسته دول منطقة البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) ــ بشكل أكبر في ضمان مزيج أكثر توازنا بين القطاعين العام والخاص في تمويل التنمية.
كما دفعت الأزمة المالية بعض الحكومات الأوروبية والأفريقية والآسيوية إلى إنشاء بنوك تنمية وطنية جديدة، وحضت دول أخرى على توسيع بنوك التنمية الوطنية القائمة. ونتيجة لهذا، بلغ إجمالي أصول بنوك التنمية الوطنية ما يقرب من 5 تريليون دولار في عام 2015. واليوم باتت تشكل سمة مهمة في أغلب القطاعات المالية في الدول المتقدمة والمتوسطة الدخل، وخاصة في الصين، وألمانيا، والهند، وكوريا الجنوبية. وبوسع بنوك التنمية الوطنية الكبرى أن تخلف تأثيرا كبيرا، وخاصة في الاقتصادات الناشئة.
ليس من المستغرب أن يبدأ الباحثون الأكاديميون أخيرا في توجيه قدر أعظم من الاهتمام لبنوك التنمية الوطنية بعد فترة طويلة من الإهمال. وهم يحولون فهم الكيفية التي تعمل بها هذه البنوك، وأي الأدوات والحوافز وهياكل الحوكمة تعمل بشكل أفضل، وكيف تتفاعل هذه المؤسسات مع القطاع الخاص والسياسات الحكومية.
في كتاب حديث، قمنا بتحليل بنوك التنمية الوطنية في سبع دول ــ الصين، وألمانيا، والبرازيل، والمكسيك، وشيلي، وكولومبيا، وبيرو ــ وخلصنا إلى أن هذه البنوك تميل إلى تحقيق النجاح في مجمل الأمر. وكانت أدوات فعّالة على نطاق واسع لاستراتيجيات التنمية الوطنية في بلدانها، كما ساعدت في التغلب على إخفاقات السوق بطريقة مرنة.
يحدد بحثنا خمس وظائف بالغة الأهمية لبنوك التنمية الوطنية في عملية التنمية: توفير التمويل المعاكس للاتجاهات الدورية؛ تشجيع الإبداع والتحول البنيوي؛ تعزيز الشمول المالي؛ ودعم تمويل البنية الأساسية، ودعم الاستدامة البيئية، وخاصة عن طريق مكافحة تغير المناخ.
كانت بنوك التنمية الوطنية معاكسة بقوة للاتجاهات الدورية في أعقاب الأزمة المالية العالمية. ووفقا لبيانات البنك الدولي، زادت بنوك التنمية الوطنية إقراضها من 1.16 تريليون دولار في عام 2007 إلى 1.58 تريليون دولار في عام 2009. كانت هذه الزيادة بنسبة 36% أعظم كثيرا من نمو الائتمان المصرفي الخاص في ذات الدول خلال ذات الفترة.
كانت بنوك التنمية الوطنية مبدعة، وخاصة في دعم الأنشطة الجديدة. على سبيل المثال، عمل بنك التنمية الصيني (CDB) في الصين، وبنك الائتمان لإعادة التنمية (KfW) في ألمانيا، والبنك الوطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (BNDES) في البرازيل، على تمويل التقدم التكنولوجي، في حين عملت بنوك أخرى، بما في ذلك مؤسسة التنمية الإنتاجية (CORFO) في شيلي، على دعم ريادة الأعمال. كما قدمت مثل هذه البنوك الضمانات وأنشأت أسهم رأسمالية جديدة (بما في ذلك رأس المال الاستثماري) وصناديق الديون. كما عملت فضلا عن ذلك على تطوير برامج جديدة لزيادة الشمول المالي، مثل متاجر “المراسلة” ومكاتب البريد التي تقدم الخدمات المالية من بنك واحد أو أكثر.
بالإضافة إلى هذا، كانت بنوك التنمية الوطنية من أبرز الداعمين لقطاعات مهمة جديدة، مثل الطاقة المتجددة وكفاءة استخدام الطاقة. على سبيل المثال، كان بنك الائتمان لإعادة التنمية في ألمانيا المقرض الوحيد في البداية لشركات القطاع الخاص التي تستثمر في الطاقة الشمسية في ألمانيا؛ ثم انضمت البنوك الخاصة إلى الركب في وقت لاحق. وفي الصين، ساعد بنك التنمية الصيني في تصميم السياسات لتشجيع الاستثمار في الطاقة المتجددة ــ وخاصة الطاقة الشمسية ــ وتوفير تمويل أولي كبير. ونتيجة لهذا، كانت ألمانيا والصين بشكل خاص من كبار المروجين على مستوى العالم للطاقة الشمسية، مما ساعد في جعلها قادرة على المنافسة على نحو متزايد في مواجهة مصادر الطاقة القائمة عل الوقود الأحفوري.
الأمر بوضوح أننا نفضل بنوك التنمية “الجيدة”: فالمؤسسات التي تتمتع بإدارة جيدة وتستعين بهيئة عاملين احترافية وتفويضات واضحة تؤدي وظائفها على النحو اللائق. وينبغي لهذه البنوك أن تعمل على تعظيم تأثيرها الإنمائي وليس أرباحها، في حين تعمل على ضمان مستوى أدنى من العائد.
ينبغي للدول التي تملك بنوك تنمية وطنية بالفعل أن تستهدف توسيع دورها، في حين يتعين على دول أخرى أن تفكر في إنشاء مثل هذه البنوك. فهذا من شأنه أن يساعد في خلق نظام مالي يخدم الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للبلدان المختلفة على نحو أفضل.
ترجمة: إبراهيم محمد علي
المصدر : : بروجيكت سنديكيت
ستيفاني جريفيث جونز * مدير الأسواق المالية بمبادرة جامعة كولومبيا للحوار السياسي.
خوسيه أنطونيو أوكامبو * هو عضو مجلس إدارة البنك المركزي الكولومبي ، وأستاذ بجامعة كولومبيا ، ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة لسياسة التنمية ، ورئيس اللجنة المستقلة لإصلاح ضرائب الشركات الدولية. وكان وزير المالية ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وهو مؤلف كتاب “إعادة ضبط النظام النقدي الدولي (غير)” ، ومؤلف مشارك (مع لويس بيرتولا) عن التنمية الاقتصادية في أمريكا اللاتينية منذ الاستقلال.