علاج المناخ أسوأ من المرض ذاته

محمد التفراوتي2 يناير 2018آخر تحديث :
علاج المناخ أسوأ من المرض ذاته

آفاق بيئية : يورن لومبورغ *

بعد مرور عامين منذ جرى التوقيع على اتفاق باريس للمناخ، اجتذبت العاصمة الفرنسية هذا الشهر مرة أخرى الصالحين والعظماء من مختلف أنحاء العالَم، والذين اجتمعوا لحضور قمة كوكب واحد التي دعا إليها الرئيس إيمانويل ماكرون. وانبرى الواحد منهم تلو الآخر إلى إمطار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بوابل من الانتقادات اللاذعة لانسحابه من اتفاق باريس، وأخبر كل منهم الآخرين بأن الاتفاق لا يزال على المسار، وشكل الساسة جمهرة مهنئة للذات مع ناشطين وكبار رجال أعمال من المشاهير.

ينبغي لنا أن نتعامل مع مثل هذا الوفاق المتعجرف بحذر. فالوفاق الودي والرغبات الحسنة لا تكفي لوقف تغير المناخ، والتاريخ عامر بسياسات النوايا الحسنة التي تبين أنها غير مفيدة، بل وربما كانت حتى أسوا من المشاكل التي كان الغرض منها معالجتها.

من الأمثلة المروعة بشكل خاص في هذا الصدد محاولة ماو تسي تونج تحسين غلة المحاصيل وصحتها من خلال إبادة عصافير الدوري. فنتيجة لهذه المحاولة تضخمت أعداد الجراد، مما أسهم في حدوث مجاعة حصدت أرواح نحو 30 مليون إنسان.

ولكن كل الحكومات ليست محصنة. فقد اعترف الرئيس الأميركي السابق بِل كلينتون بأن قانون “الثلاث ضربات” الجنائي الذي أقره في عام 1994 أدى إلى نتائج عكسية، فتسبب في سجن عدد كبير للغاية من الناس “حتى لم يعد هناك ما يكفي من الأموال لتعليمهم، وتدريبهم على وظائف جديدة، وزيادة فرصهم عندما يخرجون من السجن”. وفي العقد التالي، بدا من الحكمة أن تُبقي الولايات المتحدة على أسوأ سجنائها العراقيين في معسكر واحد ــ ولكن هذا التصور يُعَد الآن مسؤولا عن مساعدة قادة تنظيم الدولة الإسلامية في وقت لاحق في تعلم كيفية وضع المخططات.

في كثير من الأحيان، لا تتضح عيوب السياسات إلا في وقت لاحق. ولرصدها مباشرة، نحتاج إلى امتلاك القدرة على إجراء التحليل الهادئ للتكاليف والآثار. ولن نجد شأنا يتطلب هذا أكثر من تغير المناخ. ولنتأمل هنا القمة التي استضافتها باريس هذا الشهر، حيث تركز الاهتمام إما على غياب إدارة ترمب، أو على تحدي زعماء العالَم الآخرين له. ولم نسمع أي شيء عن التكاليف والآثار الفعلية المترتبة على اتفاق باريس.

تساعدنا علوم الاقتصاد في تحديد حجم المشكلة. إذ تشير تقديرات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، وهي لجنة المناخ التابعة للأمم المتحدة، إلى أن الانحباس الحراري الكوكبي سوف يكلف كوكب الأرض بين 0.2% ونحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه مشكلة، ولكنها ليست نهاية العالَم.

في الوقت الراهن، تقترب التكلفة الصافية للانحباس الحراري الكوكبي من الصِفر فعليا. ويبدو هذا غير صحيح، لأننا نستمع إلى هجمة من الأخبار الرهيبة المتصلة بالمناخ. ولكننا لا نحصل على الصورة الكاملة.

من المفهوم أن تصل أخبار موجة جفاف في سوريا إلى الأخبار. ولكن الانحباس الحراري الكوكبي في الإجمال يعني هطول كميات أكبر من الأمطار. وعلى مستوى العالَم، توصلت نظرة عامة من إعداد مجلة نيتشر (Nature) إلى أن موجات الجفاف كانت في تناقص منذ عام 1982. وعلى هذا، فبرغم أن الانحباس الحراري الكوكبي ربما أسهم في إحداث بعض موجات الجفاف، فإنه عمل في الإجمال على التقليل من زيادة موجات الجفاف؛ ولكن غياب موجات الجفاف نادرا ما يولد العناوين الرئيسية.

على نحو مماثل، نستمع إلى المخاوف بشأن تجريد الغابات المدارية من أشجارها. ولكن في حين يستحق هذا الأمر الاهتمام، فإن القصة الأكبر هي أن تغير المناخ تسبب منذ عام 1982 فعليا في زيادة المادة الخضراء في العالَم (النباتات بأنواعها كافة) بما يعادل قارة كاملة، لأن زيادة ثاني أكسيد الكربون عملت على تخصيب الحياة النباتية.

تشير أفضل التقديرات بالتالي إلى أن تكلفة الانحباس الحراري الكوكبي الصافية الآن تعادل صِفرا تقريبا. (تشير أكثر الدراسات تشاؤما إلى تكلفة تبلغ 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تشير أكثرها تفاؤلا إلى فائدة صافية قدرها 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي). وسوف يرتفع هذا إلى 2% في غضون نصف قرن من الزمن، ثم إلى 3% إلى 4% في أوائل القرن الثاني والعشرين، إذا لم نتصرف.

لكن السياسات المناخية التي أشيد بها في باريس هي في الأساس مبادرات عالية التكلفة وقليلة التأثير. فسوف يخصص الاتحاد الأوروبي 20% من ميزانيته هذا العام للعمل المتصل بالمناخ. وإذا وضعنا في الحسبان التكلفة الإجمالية التي يتحملها الاقتصاد، فمن المرجح أن تكون فاتورة الاتحاد الأوروبي نحو 209 مليار يورو (240 مليار دولار أميركي).

سوف تكون الفوائد ضئيلة للغاية. وإذا احتسبنا أن التزامات الاتحاد الأوروبي ستعمل على الحد من الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون بموجب اتفاق باريس حتى عام 2030، فإن تحليلي الذي راجعه النظراء يُظهِر أن أهداف الانبعاثات بموجب أكثر السيناريوهات تفاؤلا (شريطة تحقيقها بالكامل والالتزام بها إلى نهاية هذا القرن) لن تمنع الانحباس الحراري الكوكبي إلا بنحو 0.053 من الدرجة المئوية بحلول عام 2100.

وهذا الأثر الضئيل ليس سببا كافيا للتخلص من سياسة خفض الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي. ولكن ينبغي له أن يجبرنا على النظر في ما إذا كان العلاج أكثر تكلفة من المرض ــ وأن يجعلنا نتساءل حول أي الأساليب الأخرى قد يكون أفضل.

تُظهِر دراسة أخرى راجعها النظراء أن كل دولار يُنفَق على السياسات المناخية في الاتحاد الأوروبي سوف يولد فائدة مناخية إجمالية في الأمد البعيد لا تتجاوز ثلاث سنتات. وعلى الرغم من الهتاف القادم من فرنسا، فإن اتفاق باريس غير متكافئ بنفس القدر: فبتكلفة تتراوح بين تريليون دولار إلى تريليوني دولار سنويا، كما تشير تقديرات الأمم المتحدة ذاتها، يمكن تحقيق 1% فقط من المطلوب للإبقاء على الارتفاع في درجة الحرارة دون درجتين مئويتين.

الواقع أننا في احتياج إلى خيارات أذكى وأرخص. وقد طلب مركز إجماع كوبنهاجن، الذي أتولى رئاسته، من 27 من أفضل خبراء الاقتصاد المناخي في العالَم استكشاف كل الاستجابات السياسية الممكنة، وخلصنا إلى أن أفضل استثمار طويل الأجل هو البحث والتطوير في مجال الطاقة الخضراء. ففي مقابل كل دولار يُنفَق على مشاريع البحث والتطوير في هذا المجال، يمكننا أن نتجنب أضرارا مناخية تعادل 11 دولارا. ويتماشى هذا مع المنطق السليم على عكس إنفاق ثروة على جهود خفض الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون التي لا تحقق أي نفع تقريبا.

ينبغي لدول العالَم أن تخفف من سياساتها الحالية التي تفتقر إلى الكفاءة وأن تزيد بدلا من ذلك من الإنفاق على مشاريع البحث والتطوير في مجال الطاقة الخضراء. فالأبداع وحده القادر على دفع أسعار الطاقة الخضراء في المستقبل إلى الانخفاض إلى ما دون أسعار الوقود الأحفوري، وبالتالي إرغام الجميع على التحول إليها. كما نحتاج إلى سبل رخيصة وفعّالة للتكيف، حتى يتسنى لنا أن نتجنب أسوأ تبعات تغير المناخ. ومن الواضح أن المصدر الرئيسي للضعف في مواجهة تغير المناخ في المستقبل هو الفقر: فسوف يتحمل الفقراء أشد الضرر، كما هي حالهم في مواجهة كل التحديات العالمية الأخرى. وعلى هذا فإن انتشال الناس من براثن الفقر من شأنه أن يساعد أكثر من أي شيء آخر.

على الرغم من الخطاب النبيل الصادر عن باريس، فإن كل النوايا الحسنة على كوكب الأرض لن تعود علينا إلا بأقل القليل من الفوائد إذا تبين أن “حلولنا” المناخية كانت مجرد سياسة أخرى تتجاوز تكاليفها التي يتحملها الكوكب ما قد تحققه من مكاسب بأشواط.

*يورن لومبورغ أستاذ زائر في كلية كوبنهاغن لإدارة الأعمال . ومدير مركز إجماع كوبنهاجن، والذي يسعى إلى دراسة المشاكل والحلول البيئية باستخدام أفضل الأساليب التحليلية المتاحة. وهو مؤلف كتاب حماة البيئة المتشككون” وكتاب” اهدئوا  ” .

ترجمة: مايسة كامل         

    

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!