زلزال في المدينة

محمد التفراوتي12 ديسمبر 2013آخر تحديث :
زلزال في المدينة

نماذج لبلدان الشرق الأوسط

siesme

 راغدة حداد (اسطنبول)

«فلتعرف البلديات والمقاولون والمشرفون على ورش البناء أن إهمالهم يرقى إلى القتل». هذا الاتهام وجهه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، يوم وقوع زلزال بقوة 7,2 درجات على مقياس ريختر في شرق تركيا، أدى إلى مقتل 604 أشخاص وجرح 4152 وتضرر 11232 مبنى أصبح 6017 منها غير صالح للسكن.

 لم يكن الناس نائمين، إذ حدث الزلزال عصراً، ومع ذلك مات المئات سحقاً نتيجة انهيار الأبنية السكنية المتعددة الطبقات خلال ثوان. وقد نجمت الأضرار الكبيرة عن استخدام مواد البناء غير المناسبة وغير الوافية، وطرق البناء غير الصحيحة والأساسات غير المتينة، وعدم إصلاح الأضرار السابقة من زلزال 1999 العظيم، وتجاهل كون المنطقة على خطوط زلزالية. وقال أردوغان آنذاك: «عندما ننظر إلى الأنقاض نرى كم هي سيئة نوعية المواد المستعملة. نرى أن الناس يدفعون أرواحهم ثمن الإسمنت الذي تحول إلى رمل».

 الاستعداد للزلازل كان منطلقاً لبرنامج «نموذج الزلازل في منطقة الشرق الأوسط» (EMME) الذي بوشر عام 2009 بدراسة دامت أربع سنوات وأُعلنت نتائجها الأولية في تشرين الأول (أكتوبر) 2013 في اسطنبول. وقد شارك في الدراسة نحو مئة من الأكاديميين والخبراء، بإدارة مرصد كانديلي ومعهد أبحاث الزلازل في اسطنبول والمعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زوريخ، وبتمويل من شركة JTI  اليابانية.

 شملت الدراسة منطقة الشرق الأوسط والقوقاز، ضمن خط زلزالي يمتد من تركيا إلى الهند. ووضع المشاركون فيها سيناريوات للتعامل مع الزلازل التي قد تصيب المدن الآتية: مشهد في إيران، كراتشي في باكستان، يريفان في أرمينيا، تبليسي في جورجيا، إربد في الأردن، صور في لبنان. وذلك بعد تجميع بيانات حول البنية التحتية، والأبنية، والتوزيع السكاني، وحالة التربة، وغيرها من المعلومات التي تساهم في رفع قدرات الاستعداد للزلازل وإدارة الأزمات.

 وقال الدكتور مصطفى إرديك، مدير مرصد كانديلي ومركز أبحاث الزلازل في اسطنبول الذي يتولى تنسيق البرنامج: «منذ العام 1900 قتل نحو 2.5 مليون إنسان نتيجة الزلازل حول العالم، وناهزت الخسائر الاقتصادية 3000 بليون دولار. وتم تسجيل قسم كبير من هذه الخسائر في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز، التي تقع عند تقاطع الصفائح التكتونية الأفريقية والعربية والأورو ـ آسيوية، ما يؤدي إلى نشاط زلزالي قوي في هذه المنطقة».

 مع تجمع عناصر الخطر، من احتمال مرتفع لحدوث الزلازل، ومعايير البناء الضعيفة، وغياب استراتيجيات الحد من المخاطر، فان الشرق الأوسط هو من المناطق الأكثر انكشافاً على آثار الزلازل. وفي حال حصول زلزال مدمر، فقد تؤدي هذه العناصر مجتمعة إلى سقوط آلاف الضحايا. ويتمثل الدور البعيد المدى لبرنامج EMME في تحقيق مقاربة أكثر تنظيماً لمخاطر الزلازل وسبل الحد من آثارها، ما يؤدي إلى تقليص الخسائر البشرية والمادية.

 ويتولى الدكتور رشيد جرادات، الأستاذ في جامعة اليرموك في الأردن، تنسيق برنامج سيناريوات المدن في البرنامج. وهو أوضح لـ«البيئة والتنمية» أن للدراسة خمسة أهداف رئيسية: أولاً، إعداد قاعدة بيانات للزلازل التي شهدتها المنطقة عبر التاريخ، بما في ذلك مواقعها وقوتها وما رافقها وتلاها من أحداث. ثانياً، مسح جميع الفوالق الزلزالية في المنطقة ومعدلات الحركة عليها. ثالثاً، نمذجة الحركة الزلزالية، أي كيفية تلاشي قوة الزلزال حين يحصل، وأي مدن قد تتأثر به أكثر أو أقل. رابعاً، دراسة السلوك الهندسي للمباني وضعف الحصانة الزلزالية. خامساً، وضع سيناريوات للمدن عن طريق أخذ هذه الدراسات الإقليمية وتطبيقها على المدينة، ما يعطي فكرة عن حجم الأضرار على الأبنية والبنى التحتية والأعداد المحتملة للضحايا.

 سيناريو مدينة صور

مدينة صور في جنوب لبنان هي إحدى المدن الست التي شملتها الدراسة الميدانية، وذلك لقربها من ثلاثة فوالق، وقد شهدت ستة زلازل كبرى عبر التاريخ كان أقواها عام 1202 بقوة 7,5 درجات. وهي في معظمها مبنية على أرض غرينية، حيث الطبقات الرملية مشبعة بمياه البحر أو المياه الجوفية غير العميقة. كما أن موقعها الساحلي يجعلها عرضة لأمواج تسونامي في حال حصول زلزال قوي في البحر المتوسط، كما حصل عام 551 حين اكتسحت الأمواج العالية المدمرة معظم شاطئ فينيقيا من صور الى طرابلس. وإضافة إلى ذلك، كما قال البروفسور دومينيكو جيارديني خبير الزلازل في معهد زوريخ لـ«البيئة والتنمية»، هناك أبنية معرضة للانهيار في الزلازل بسبب تضررها من أعمال القصف.

 تولى أبحاث دراسة EMME في لبنان فريق من الجامعة الأميركية في بيروت وشركة رفيق الخوري للاستشارات الهندسية. فتم اعتماد زلزال 1202 نموذجاً. وقام الفريق بمسح 2663 مبنى في صور صُنفت في 10 فئات وفقاً لدرجة تأثرها المحتمل. ووضعت قاعدة بيانات لتقييم الخطر في المنطقة، وأنجزت خريطة للفوالق، وأدخلت بيانات الأبنية والسكان على نظام المعلومات الجغرافية (GIS). وذلك لإنتاج السيناريو الأكثر احتمالاً الذي يمكن أن تعيشه المدينة إذا ضربها زلزال بقوة 7,5 درجات. وتم تنفيذ السيناريو الزلزالي بواسطة برنامج كومبيوتري خاص بتحليل المخاطر.

 الدكتور الياس عطا، أستاذ العلوم الجيوفيزيائية في الجامعة الأميركية الذي شارك في الدراسة، أوضح لـ «البيئة والتنمية» أن ما بين 5 و20 في المئة من الأبنية ستتعرض لدمار شديد أو كلي، وفقاً لموقعها، بحسب السيناريو الذي تم إعداده لمدينة صور.

 وقال رئيس بلدية صور حسن دبوق: «كان لا بد من دراسة كهذه لكي نتمكن من تحديد نقاط الضعف ومكامن الخلل، ونرفع جهوزيتنا للتعامل مع الزلازل ومواجهة آثارها وتحسين أدائنا والتنسيق مع الأجهزة المعنية بشكل أكثر فعالية، خصوصاً في عمليات الإنقاذ».

 اسطنبول نموذجاً

شهدت اسطنبول خلال السنوات الـ1500 الماضية ما معدله زلزال كبير كل قرن، كان آخرها الذي ضرب بحر مرمرة في 17 آب (أغسطس) 1999 بقوة 7,6 درجات وتسبب في مقتل نحو 17 ألف شخص وخلف أضراراً ببلايين الدولارات. وكانت منطقة أفجيلار في اسطنبول الأكثر تضرراً،  فهي مبنية على خط الفوالق الممتد عبر بحر مرمرة.

 قال مصطفى إرديك: «في اسطنبول نحو مليون مبنى، وعند حصول زلزال كبير تفوق قوته 7 درجات، نتوقع أن تلحق أضرار بنحو 40 إلى 50 في المئة منها، تكون فادحة في 3 إلى 4 في المئة، وينهار نحو 5000 مبنى كلياً، ما قد يودي بحياة 200 إلى 300 ألف شخص. وستكون أعمال البحث والإنقاذ صعبة جداً». وهو واثق من أن معظم الأبنية الحديثة في اسطنبول بنيت وفق معايير عالية لمقاومة الزلازل، لكن المشكلة هي في الأبنية القديمة وفي عدم تقيد بعض المقاولين بأنظمة البناء. وأكد على وجوب اتخاذ ثلاثة إجراءات: «يجب أولاً اعتماد الهندسة الاحترافية، ففي إمكان أي مهندس متخرج حالياً توقيع أي مشروع يريده. ثانياً، يجب فرض حصول المقاولين على ترخيص مع تأمين يغطي سوء الممارسة. والخطوة الثالثة هي مراقبة نوعية البناء».

 في العام 2003، بعد أربع سنوات على زلزال 1999 الكارثي، أطلقت اسطنبول مخططها التوجيهي للزلازل. ولاحقاً، وضعت الحكومة التركية عام 2012 استراتيجية وخطة عمل وطنية للزلازل حتى سنة 2023، تشمل جوانب الاستعداد للكوارث وتحسين مقاومة الأبنية. وجرى تدريب آلاف المتطوعين وتشكيل فرق إنقاذ محترفة. وتزور فرق من مؤسسة الزلازل التركية المدارس مصحوبة بعربة مزودة بجهاز لمحاكاة الزلازل، بهدف تعليم التلاميذ ماذا يجب أن يفعلوا عند حدوث زلزال، كأن يختبئوا تحت طاولة بعيداً عن الخزائن التي قد تهوي أرضاً.

 وتؤكد بلدية اسطنبول أنها ضاعفت استعداداتها، فأنشأت مخزونات احتياطية للكوارث ومركزاً لوجستياً لإمداد 250 ألف شخص بالطعام يومياً، وأحدثت وحدة خاصة للرعاية الصحية في حالات الطوارئ، وبنت نحو مئة مهبط جديد لطائرات الهليكوبتر. وتم إعداد مجموعة متنوعة من خرائط المخاطر ونظام اتصال بواسطة الأقمار الاصطناعية. والعمل جار على تقوية الجسور والقناطر.

 الزلازل تحدث من دون إنذار. لكن الأبنية، لا الزلازل، هي التي تقتل معظم الضحايا، والتقاعس عن تأهيلها قد تترتب عليه تداعيات كارثية. ومن شأن تأهيل الأبنية القديمة واعتماد الممارسات المحسنة في البناء ورصد المواقع التي يحتمل تضررها تقليص الخسائر بشكل فعال. ويؤمل أن تستفيد السياسات الحكومية من نتائج برنامج EMME فتبنى على أسس أقوى من الوعي والمعرفة.

 ينشر بالتزامن مع مجلة “البيئة والتنمية” عدد كانون الأول/ديسمبر 2013)

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!