البيئة وكرامة الانسان

محمد التفراوتي13 مارس 2013آخر تحديث :
البيئة وكرامة الانسان

najibsaab[1]

نجيب صعب

تغيُّر المناخ كان من أبرز المواضيع التي طرحها الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال حفل تنصيبه لولاية ثانية: «سنتصدى لخطر تغير المناخ، مدركين أن التقاعس خيانة لأطفالنا وللأجيال المقبلة». أميركا لا تستطيع مقاومة التحول الى مصادر الطاقة المستدامة، بل يتوجب عليها قيادة هذا التحول. هكذا قال الرئيس. وتعهد بزيادة الميزانيات المخصصة للبحث العلمي في مجالات تطوير تكنولوجيات مضمونة ورخيصة لطاقة الشمس والرياح والاستخدامات الأنظف للطاقة التقليدية، وصولاً الى مستقبل تصبح فيه الطاقة عديمة الانبعاثات.

 خلال فترة ولايته الأولى، وعلى رغم المعارضة الشديدة التي واجهها من المحافظين في الكونغرس، نجح أوباما في فرض سياسات وقوانين أدت الى مضاعفة إنتاج الطاقة من الشمس والرياح، وإقرار تدابير تفرض على صانعي السيارات تخفيض معدل استهلاك المحركات الى نصف ما هو عليه اليوم بحلول سنة 2025، أي نحو 4.3 ليترات من الوقود لكل مئة كيلومتر.la_faim_dans_le_monde

 ما كاد الرئيس أوباما يلقي خطابه، حتى نشرت جريدة «الغارديان» تحقيقاً عن تبرعات سرية بقيمة 120 مليون دولار، قدمتها جماعة من المتمولين المحافظين الأميركيين لنحو مئة جمعية ومركز أبحاث لتشجيعها على التشكيك في تغير المناخ. وجاء هذا عقب تضاؤل حجج المشككين في السنوات الأخيرة، إذ اضطروا الى التراجع عن إنكار أن المناخ يتغير، لكنهم اعتمدوا حجة جديدة تقول إنه يتغير بسبب دورات طبيعية وليس بسبب الانبعاثات الناجمة عن النشاطات البشرية، خصوصاً الاستخدام المفرط وغير النظيف للوقود الأحفوري. وأعاد هذا الى الذاكرة قصص مئات الملايين من الأموال السرية التي صرفتها شركات التبغ لدعم «باحثين» و«خبراء» استمروا في إنكار مضار التدخين على الصحة قبل أن تسقط ورقة التين الأخيرة عن حججهم الزائفة، التي كان يحركها الجشع. وتبين أن بعض «العلماء» الزائفين الذين أنكروا مضار التدخين في الأمس هم أنفسهم الذين ينكرون تغير المناخ اليوم.

 ما إن انقضى يومان على نشر هذا التحقيق حتى ضج الإعلام بأخبار سقوط نيزك ضخم وانفجاره فوق روسيا، متسبباً بأضرار مادية جسيمة وآلاف الجرحى في منطقة منعزلة من الأورال. صور الكتل المشتعلة للشهب القادمة من كوكب في الفضاء الخارجي أثارت الذعر. وفيما انشغل بعضهم في حساب الأضرار والإصابات لو سقطت هذه الشهب، التي قدرت قوتها بثلاثين ضعف قنبلة هيروشيما الذرية، في منطقة مأهولة، ذهب آخرون الى التساؤل عن جدوى العمل على التصدي لتغير المناخ، علماً أن الكوارث الطبيعية قد تؤدي الى أضرار لا تقل جسامة عن آثاره. وفات هؤلاء أن الفرق بين الاثنين شبيه بالفرق بين الموت بحادث والانتحار. ولا نعتقد أنه من المقبول أخلاقياً أن يسمح العالم بحصول كارثة مناخية من صنع الانسان، تكون بمثابة انتحار جماعي.

 وسط هذه القضايا، كان وزراء البيئة في العالم يحزمون حقائبهم للمشاركة في المؤتمر الوزاري البيئي العالمي السنوي، الذي يستضيفه برنامج الأمم المتحدة للبيئة بمقره في العاصمة الكينية نيروبي. الحدث يكتسب هذه السنة أهمية خاصة، لأنها المرة الأولى التي يحصل فيها هذا اللقاء بعضوية 193 دولة منضوية تحت راية الأمم المتحدة، وفقاً لتوصية مؤتمر ريو +20 التي أقرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة مؤخراً. وقد كانت العضوية محصورة، منذ إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة قبل أربعين عاماً، في مجلس حاكم يضم 58 دولة.

 الدول والمنظمات الأعضاء تتحضر لمناقشة التركيبة الجديدة للهيئة العالمية الرئيسية المسؤولة عن أوضاع بيئة العالم: هل تبقى برنامجاً يتبع الأمين العام للأمم المتحدة، ويكون له حق إبداء الرأي في أعمال هيئات الأمم المتحدة الأخرى، لأن البيئة قضية عابرة للاختصاصات؟ أم يتحول الى «وكالة متخصصة» يحكمها أعضاؤها الــ193 مع ما قد يستتبعه هذا من خطر الانعزال عن الهيئات الدولية الأخرى؟

 «الحرس القديم» الذين رافقوا إنشاء برنامج البيئة رأوا أن تحول جمعيته العامة الى الصفة العالمية، برفع العضوية الى 193 بدلاً من 58 دولة فقط، يعطي البرنامج قوة وسلطة أكبر من كونه وكالة متخصصة مستقلة، شرط أن يقترن هذا بزيادة التمويل، عن طريق رفع قيمة المساهمة الثابتة من ميزانية الأمانة العامة للأمم المتحدة وتوسيع المساهمات الطوعية للدول الأعضاء.

 ملفات حول كل هذه المواضيع كانت في حقيبتي وأنا في طريقي الى مطار بيروت، مسافراً الى نيروبي للمشاركة في الاجتماع الوزاري البيئي العالمي. كانت ليلة ماطرة باردة عاصفة، وكنت مستغرقاً في التفكير لاختيار موضوع من هذه المواضيع يكون افتتاحية لـ«البيئة والتنمية»، أكتبها على الطائرة. توقفت السيارة عند إشارة حمراء، وبرز على الشباك وجه ناحل يرتجف، كأنه شبح خرج لتوه من المقابر. فتى لا يتجاوز الخامسة عشرة، يقف تحت المطر بلا معطف ولا حذاء ولا قبعة. لم يطلب مالاً، بل كسرة خبز. من أنت وماذا جاء بك الى هنا، سألته. أجاب بشفتين مرتجفتين، وظهر لسانه جافاً رغم المطر، كأنه لم يأكل ولم يشرب منذ أيام طويلة: أنا عربي مشرّد، هارب من القتل والدمار.

 أعرف أن هذا واحد من ملايين العرب الجياع والمشردين والمهجرين، لكنني أعترف أنني لم أشاهد قبل ذاك اليوم بؤساً بهذا الحجم.

 لمن نكتب عن البيئة والتنمية المستدامة والمستقبل؟ لجياع لا يعرفون ما اذا كان عندهم ما يأكلونه في صباح اليوم التالي؟ أم لحكام أوصلوا شعوبهم الى هذا الحد من البؤس؟

 كنا ما نزال في زحمة بيروت، قبل دقائق من الوصول الى المطار، حين انطلق راديو السيارة بنشرة الأخبار المسائية، وبدايتها تصريح لأحد رجال الدين يتساءل فيه: «ماذا تعني شعارات الحرية والديموقراطية إذا جاء تطبيقها على حساب دماء الناس الأبرياء؟» كان وجه الشبح البائس ما زال على شباك سيارتي، فتساءلت: ماذا تعني جميع الأنظمة اذا كان بقاؤها على حساب كرامة الانسان؟ وهل يمكن أن نتحدث في البيئة بمعزل عن كرامة البشر وحقوقهم الأساسية؟

 (ينشر بالتزامن مع مجلة “البيئة والتنمية” عدد آذار/مارس 2013)

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!