آفاق بيئية : الاردن / باتر محمد علي وردم
بعد مرور أكثر من سنة على بداية “الربيع العربي” الذي غير كثيرا من أوجه الحكم والإدارة في العالم العربي، لا يزال المستقبل في معظم الدول مفتوحا على كافة الاحتمالات السلبية والإيجابية. ومع أن الفساد والقمع يعتبران من الأسباب الجذرية التي دفعت الشارع العربي للحراك من أجل التغيير، فإن إدارة الموارد الطبيعية والبيئة هي من ضمن الدوافع الهامة والتي ساهمت في نشوء الثورات والاحتجاجات العربية. ولكن الملف البيئي في الدول العربية التي تمر في مرحلة التغيير أصبح يحظى بالحد الادنى من الأولويات، بالرغم من وجود الأمل في حدوث تغيير جذري في إدارة الموارد نحو اقتصاد مستدام.
هنالك فيض من التقارير الإعلامية والدراسات التحليلية التي تحاول إستقراء مستقبل الدول العربية بعد بداية ما سمي “الربيع العربي” والذي تمثل في تحركات احتجاجية شعبية وصلت إلى مرحلة الثورات التي قلبت الأنظمة وغيرت السلطة في بعض البلدان (تونس ومصر وليبيا واليمن) ومواجهات عنيفة مع السلطة في سوريا والبحرين وحركات شعبية متتالية في الشارع من أجل التسريع في الإصلاح السياسي في الأردن والمغرب والجزائر. ومع أن معظم التوقعات تشير إلى ظهور فجر عربي جديد يتميز بالمزيد من المشاركة الشعبية في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية، والتخفيف من غلواء السطوة الأمنية على مختلف مناحي الحياة في الدول العربية، والتوجه الجدي نحو مكافحة الفساد وتحسين حريات الإعلام والتعبير فإن هذه التحولات العربية تبقى مفتوحة على جميع الاحتمالات، الإيجابية منها والسلبية.
كثيرة هي الأسباب التي دفعت المجتمعات العربية للثورة والنهوض في وجه أنظمة الحكم السائدة منذ عقود. ربما تكون الخصائص الدكتاتورية والتسلطية لمعظم الأنظمة سببا رئيسيا وكذلك الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية وتردي نوعية الحياة وزيادة الفقر والبطالة. وفي واقع الأمر يمكن اختيار سببين استراتيجيين لنهوض الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي وهما القمع والفساد والمتواجدان بشكل كبير في كافة الدول العربية ولكن بدرجات متفاونة. ولكن أحد الأسباب الرئيسية والتي لم يتم التركيز عليها في التغطية الإعلامية والتحليلية لهذه الثورات هي القمع الذي مورس من قبل السلطات ضد المواطنين العرب عن طريق انتهاك حقوقهم في الموارد وفي البيئة النظيفة، وكذلك الفساد الناجم عن سوء إدارة الثروات والموارد الطبيعية في معظم دول العالم العربي، الأمر الذي أدى بفئات عديدة من الشعب للثورة والاحتجاج بهدف تغيير أنماط الحكم واستعادة الهيمنة على الموارد والثروات الطبيعية.
هنالك علاقة مباشرة وإن لم تكن واضحة ما بين الثروات والثورات العربية. ففي الوقت الذي تعيد فيه الشعوب العربية تعريف الطريقة التي تريد أن تدار دولها بها وتجنح نحو الديمقراطية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار وتبدأ في بناء مستقبل جديد ومزدهر للأوطان، فإن خياراتها الإستراتيجية في مجال إدارة الموارد الطبيعية وتطوير الاقتصاد ستكون مختلفة عما كانت عليه في ظل أنظمة شمولية لا تقبل الحوار. منذ اليوم فصاعدا لن تسمح الشعوب العربية لمجموعات غير منتخبة ولا تملك الشرعية العامة أن تتخذ القرارات الحاسمة في الشؤون الكبرى بدون إستشارة الرأي العام، ومن هذه القرارات ما يتعلق بإدارة الثروات والموارد الطبيعية.
من الصعب وضع كافة الأنظمة العربية في نفس المعيار السياسي والتنموي والبيئي. في بعض الدول الثرية تمكنت الأنظمة من توفير نمط حياة يفوق المعدل العالمي عن طريق ضخ عائدات النفط أما في المشاريع التنموية والإستثمارية وإما في خلق الوظائف وتأمين الخدمات والسلع باسعار زهيدة نسبيا عن طريق الدعم الحكومي ولهذا بقيت مستقرة تقريبا بالرغم من غياب النشاط الديمقراطي الفعال. وفي دول حققت مرتبة متوسطة من النمو الاقتصادي والتنمية الإنسانية مثل المغرب والأردن وتونس ومصر والجزائر ولبنان وسوريا واليمن فقد تاثرت الاقتصادات الداخلية بموجات العولمة وارتفاع الاسعار والاحتكارات الرأسمالية والتي كانت في كثير من الحالات مرتبطة بفساد الحكومات والأنظمة. في هذه الدول تحولت الرموز السياسية إلى رجال أعمال يحتكرون قطاع البزنس الدولي والإقليمي بينما تغرق الفئات الأكبر من الشعب في مستنقع الديون والفقر والبطالة. ومع أن الأحوال الاقتصادية-الاجتماعية في هذه الدول المذكورة سابقا تتشابه فإن الاختلاف في مسارات الاحتجاجات فيها جاء نتيجة تباين مستويات القمع السياسي والأمني، حيث شهدت الدول التي مورس فيها القمع بمنهجية شديدة ثورات لم تقبل إلا بتغير نظام الحكم، بينما تمكنت الانظمة التي وفرت بعض أجواء الحريات العامة من استيعاب الاحتجاجات الشعبية.
أما الحالة الليبية فهي استثنائية، حيث مكث نظام حكم خارج التاريخ على أنفاس الشعب الليبي لمدة 40 عاما تقريبا، مضيعا ما مجموعه ثلثي الثروة النفطية (حسب تقييم السيد محمود جبريل أحد رموز المجلس الانتقالي) على مغامرات نرجسية نحو الزعامة الإقليمية والعربية وبذخ شخصي في غياب مشاريع التنمية والاستثمار وتطوير البنية التحتية في ليبيا. وتبقى الدول العربية التي تعاني من مشكلات بنوية جذرية في تركيبتها وأنظمة الإدارة والتي تصل إلى مستويات النزاع المسلح تواجه صعوبة كبيرة في توفير متطلبات الحياة الكريمة لمواطنيها ومع ذلك فإن اي منها لم يشهد احتجاجات واسعة تصل إلى مستوى الثورة على الانظمة.
الفساد البيئي في العالم العربي:
شهدت الدول العربية في السنوات الماضية العديد من حالات الفساد البيئي التي تعكس إما عدم الاكتراث بأهمية الموارد الطبيعية وحماية حقوق المواطنين في بيئة سليمة، أو تعكس حالات من السرقة الحقيقية لقيمة الموارد الطبيعية نتيجة سياسات الخصخصة وبيع الأصول والتي لا تتضمن تحسين الأداء بقدر ما تهدف إلى تحقيق الأرباح الطائلة بطرق تتجاوز القانون.
في ليبيا أهدر نظام القذافي ثروة الشعب الليبي النفطية في مغامرات طائشة وبذخ شخصي فاحش بدون الاهتمام بحقوق التنمية في البلاد، ولكن الأمر تجاوز ذلك في تعمد تعريض المواطنين الليبيين للتلوث بالمواد السامة. فقد كشفت وثائق ويكيليكس إن القذافي رفض في العام 2009 التخلص من آخر شحنة من بقايا اليورانيوم المخصب من البرنامج النووي الليبي غير المكتمل، والتي كان يجب أن تشحن إلى روسيا للتخلص الدائم منها وأبقاها في مركز أبحاث وغير مؤمنة لا أمنيا ولا بيئيا وذلك في محاولة للضغط على سلطات مدينة نيويورك التي رفضت السماح له بإقامة خيمته الشهيرة في حديقة سنترال بارك أثناء مشاركة القذافي في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وقد بقيت الشحنة هنالك منذ ذلك الوقت.
أما في تونس فقد تناقل المجتمع التونسي القصص والحقائق حول قيام زوجة الرئيس التونسي السابق وعائلتها بممارسة الضغوطات على المواطنين وعلى المؤسسات العامة لتسجيل أراضي زراعية خصبة باسماء أفراد عائلة زوجة الرئيس وتحويل مسمياتها من زراعية ذات ملكية للدولة إلى استثمارية ذات ملكية خاصة لإقامة عدة مشاريع سياحية وعقارية على أخصب وافضل الأراضي في تونس. وقد كانت مثل هذه الحالات من الفساد هي التي وضعت الشعب التونسي أمام خيار الثورة وتغيير النظام بالرغم من تحقيق تقدم مشهود في مجال التعليم والتنمية والتصنيع وخاصة في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.
وفي مصر كان موضوع الفساد والهدر في إدارة الموارد الطبيعية من أهم الملفات الساخنة على منبر الثورة المصرية وبخاصة قرار الحكومة المصرية ببيع الغاز الطبيعي لإسرائيل بقيمة تبلغ ثلث المعدل العالمي، مما ساهم ايضا في تأجيج المشاعر الشعبية والمطالبة بمحاكمة المسؤولين عن هذا الملف وتفجير خط الغاز الناقل إحدى عشر مرة حتى شباط 2012. علما بأن نفس هذا الخط ينقل الغاز الطبيعي إلى الأردن والذي عانى الامرين من انقطاع تدفق الغاز وإضطراره للتعويض عن طريق شراء النفط من السوق العالمي. قضية أخرى أرقت الشارع المصري قبيل الثورة تتعلق بضعف الدولة المصرية في الدفاع عن حقوق مياه النيل والوصول إلى تفاهم يستعيد الحصص المصرية التاريخية في مياه النيل والتي يتم حاليا التفاوض بشأن إعادة تخصيصها ما بين دول حوض النيل وذلك بغياب مصري واضح.
وقد ظهرت أيضا في شعارات الثورة المصرية العديد من الاحتجاجات على إدخال المخصبات الزراعية المسرطنة إلى السوق المصري، والاستمرار في تلويث مياه النيل من قبل المصانع، وعدم جدوى مشروع توشكى للزراعة في الصحراء والاستمرار في ظهور السحابة السوداء الكريهة في سماء القاهرة في كل فصل خريف نتيجة حرق القش في الأسابيع الأخيرة من الصيف. وربما كان من أهم مشاهد الوعي في الثورة المصرية قيام شبان وشابات الثورة بتنظيف ميدان التحرير من المخلفات فور سقوط النظام والبدء بإخلاء الميدان بعد حوالي 20 يوما من الاعتصامات والمظاهرات والمواجهات المستمرة.
وحتى في البلدان التي لم تصل فيها الاحتجاجات إلى المطالبة بتغيير النظام مثل الأردن، فقد كان من أهم شعارات المتظاهرين وقف بيع أصول الدولة ومواردها للقطاع الخاص حيث تم تحميل سياسات الخصخصة الكثير من المسؤولية على تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد وبخاصة بيع شركات الاستخراج والتعدين الناجحة مثل الإسمنت والفوسفات والبوتاس والتي حققت عوائد وأرباح كبيرة بعد بيعها بمبالغ قليلة نسبيا وعدم فرض مسؤولية بيئية على هذه الشركات لتنظيف المناطق الملوثة الناجمة عن عمليات التعدين.
ومن الممكن ايضا ملاحظة علاقة مباشرة ما بين الثورات في بعض الدول العربية وما بين وصولها إلى قمة إنتاج النفط في مراحل سابقة ومن ثم تدهور الإنتاج النفطي والتراجع إلى مستوى استيراد الطاقة، وهذا ما حدث في مصر حيث وصل إنتاج النفط إلى الذروة في العام 1987 وفي سوريا والتي بدأ إنتاج النفط فيها يتراجع منذ العام 1994 وكذلك اليمن التي شهدت التراجع منذ العام 2001. في هذه الحالات حدث تغير كبير في دور الدولة من جهة توفر الأمن الاقتصادي والهوية الريعية للاقتصاد إلى دولة تحتاج إلى استيراد حاجاتها من النفط والغذاء وهذا ما أثر على الأسعار والأوضاع الاقتصادية للمواطنين.
هل من طريق نحو مستقبل مستدام في الربيع العربي؟
لا يزال مستقبل الدول العربية التي تخوض مرحلة التحولات الديمقراطية إما بالثورة أو بالتغيير الاحتجاجي مفتوحا على عدة احتمالات فهنالك الأمل في حدوث تطور في معايير الإدارة والقيادة والمعرفة بحيث تنتقل هذه الدول نحو مرحلة الدولة المدنية الحريصة على حقوق الإنسان ومنها الحقوق البيئية، أو تدخل في مستنقع من الفوضى والعشوائية التي تكون فيها نوعية البيئة أحد أكبر الضحايا.
الجوانب السلبية للربيع العربي في مجال البيئة ظهرت في بعض الحالات في تونس ومصر واليمن والأردن، بينما يمكن القول بأن المفاصل الأساسية للدولة في سوريا قد تعطلت ومنها بالطبع القدرة على الإدارة البيئية ومكافحة تحديات التلوث والتصحر ونقص المياه وغيرها في ظل الأجواء العنيفة من الصراع في البلاد منذ العام الماضي.
في تونس واجهت المحميات الطبيعية الكثير من المشاكل في ظل تراخي الإدارة والمراقبة وتعرض الكثير من محتوياتها والبنية التحتية فيها إلى السلب ناهيك عن الصيد والجمع غير المنضبط للأنواع الحية ومنها ما هو مهدد بالانقراض. ولكن العمل البيئي المؤسسي شهد قوة في تونس من خلال قيام مجموعات شعبية ومدنية بالضغط نحو تضمين الحق في بيئة سليمة في الدستور التونسي الجديد كما ضمت الحكومة التونسية وزيرة بيئة من الناشطات في الثورة التونسية ولا يتجاوز عمرها 28 عاما، وهذا بحد ذاته وإن كان يمثل نموذجا فريدا للقناعة بدور الشباب فإنه ايضا يمثل تحديا لا يستهان به.
وفي تقارير إعلامية مصرية تم توثيق العديد من الانتهاكات لنهر النيل في مرحلة ما بعد الثورة المصرية ومنها السيطرة بالقوة على مئات الفدانات من الأراضي المحاذية للنهر وتزايد وتيرة صرف المجاري والمخلفات في غياب الرقابة الأمنية الفاعلة.
وفي الأردن تزايدت نسبة الاحتجاجات التي قادتها جماعات وعشائر محلية ضد إقامة المحميات الطبيعية في بعض المناطق ومنها اليرموك في الشمال وجبل مسعودة في الجنوب وذلك استنادا إلى ما تعتبره هذه المجموعات واجهات عشائرية تشكل حقا لها منذ ما قبل نشوء الدولة، وتمكنت من ممارسة ضغط كبير على الحكومة لتعطيل إقامة بعض المحميات المقرة في شبكة المحميات الطبيعية أو المطالبة بإلغاء بعض المحميات القائمة. وفي الجانب الإيجابي ساهم النشاط الشعبي في الأردن والمترافق مع الربيع العربي في منع إقامة كلية تدريب عسكرية كبيرة في قلب غابة برقش التي تشكل واحدا من أهم أنظمة الغابات النادرة في الأردن، كما تستمر الحملة الشعبية المناهضة لإقامة المفاعل النووي بكسب الزخم والتأييد الشعبي بحيث أصبحت تملك قدرة كامنة على اتخاذ قرار وشيك بوقف المشروع في مرحلة قادمة.
أما في اليمن فقد أدت المواجهات المسلحة إلى تدهور وضع البيئة إلى الحد الادنى من الاهتمام السياسي والشعبي فتراكمت الاعتداءات على البيئة وحالات التلوث وتراكم المخلفات وحتى تهديد جزيرة سوقطرة الفريدة والتي طلبت الإدارة الاميركية إقامة قاعدة عسكرية أميركية فيها، وربما تكون الخطة قد ألغيت نتيجة تطورات الثورة.
ولكن في المقابل هنالك اسباب وجيهة للأمل. يقدم الربيع العربي فرصة كبيرة لتغيير جذري في الإدارة في العالم العربي عن معايير الجدارة المهنية Meritocracy وليس ضمن نظام المعرفة والواسطات التي تسيطر على نظم الإدارة السابقة والتي ساهمت في جعل الناس ينقلبون على السلطة الفاسدة. أن التحول المنشود للدول العربية من مرحلة الحكم الواحد إلى التعددية السياسية (ملكي مطلق إلى ملكي دستوري وجمهوري رئاسي إلى جمهوري برلماني) من شأنه أن يضع القرار في يد الشعوب بشكل اساسي والتي تحدد مطالبها وأولوياتها. وبالنسبة للسياق البيئي فإن ذلك لا يتطلب فقط تغييرا في نمط الوعي لدى صناع القرار بل ايضا في ارتقاء البيئة والإدارة المستدامة للموارد إلى المواقع ذات الأولوية في أجندة العمل الديمقراطي والحزبي في العالم العربي.
وتبقى القضية الأولى على أجندة الإصلاح البيئي في الوطن العربي هي ظهور القيادات البيئية الحقيقية في الإدارة الرسمية. لا يزال معظم وزراء البيئة العرب باستثناء قلة نادرة منهم من الاقل تأثيرا ونفوذا في الحكومات وعادة ما يتم انتقائهم من أقليات دينية أو عرقية وذلك كنوع من إظهار إشراك كافة فئات المجتمع في الإدارة العامة للدولة. وفي دول مثل الأردن تشهد عدة تغييرات للحكومات تصبح عملية تغيير وزراء البيئة مشكلة حقيقية بسبب عدم منح اي وزير الوقت الكافي لترك بصمة واضحة في العمل. تحتاج وزارات البيئة في العالم العربي إلى وزراء أصحاب تخصص علمي وإلى شغف حقيقي في تحسين نوعية البيئة وتحقيق قصة نجاح تبقى مرتبطة بسمعتهم المحلية والعالمية بدلا من قضاء الأشهر في المناسبات الاجتماعية وافتتاح الندوات والمؤتمرات والسفر في المشاركات الخارجية واستقبال مندوبي ورؤساء المنظمات الدولية في انتظار راتب تقاعدي مريح.
من المثير للاهتمام مدى زيادة الإدراك للقضايا البيئية لدى صناع القرار العرب. فعلى سبيل المثال أكد الرئيس اللبناني ميشيل سليمان على أهمية عدم تأثير الثورات العربية التي تحصل في العالم العربي على البيئة، وطالب رجال الأعمال بزيادة وتفعيل وتوطين الاستثمارات العربية في مجالات البيئية التي ستشكل محورا أساسيا خلال السنوات العشر المقبلة ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة والعالم في ظل التغيرات المناخية والتصحر والمشكلات البيئية التي تواجه العالم. وجاء ذلك في سياق افتتاحه لأعمال المؤتمر البيئي العاشر في لبنان في ايار 2011.
وفي موقف استثنائي أعلن الملك الأردني عبد الله الثاني “تضامنه” مع معتصمين من سكان مدينة الفحيص التي زارها قبل أشهر وهي التي تحتوي على مصنع إسمنت كبير ويساهم في تلويث البيئة منذ عدة سنوات منا أن أغبرة المصنع تصل إلى قصر الملك نفسه القريب من المنطقة، حيث قال الملك للمشاركين أنه “يعتصم معهم” من أجل حقوقهم في بيئة آمنة.
وفي سياق متصل أكد ممثلو الحكومات العربية المشاركة في الاجتماع التشاوري العربي التحضيري لمؤتمر قمة الأرض في ريو 2012، والذي عقد في القاهرة في تشرين الأول 2011 على أهمية تضمين البعدين البيئي والاجتماعي في السيسات الاقتصادية العربية، حيث اشارت د. ريما خلف وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا أن الأزمات المالية العالمية تقوّض ما تبذله البلدان من جهود لتحقيق التنمية المستدامة ومكافحة الفقر وتحسين مستويات معيشة المواطنين. وأضافت أنه من “المؤسف أن أسلوب التصدي لهذه الأزمات يعكس الخلل القائم في موازين القوى في العلاقات الدولية، فالأطر المؤسسية التي يتم اللجوء إليها في الأزمات تفتقر إلى الديمقراطية والشفافية”. وقالت إن الحلول تُبحث في غرف مغلقة تقتصر على بعض القوى ثم يُصار إلى إملائها على سائر المجتمع الدولي، مختتمةً بالقول إن هذا النهج لم يعد مقبولاً ولا يمكن الاستمرار في إتباعه بعد أن أثبت إخفاقه في معالجة العديد من التحديات العالمية.
وإذا كانت هذه الصحوة تحدث على مستوى القادة السياسيين فإن من أهم مظاهر الربيع العربي نمو المجتمع المدني وخاصة في دول شمال إفريقيا مثل مصر وتونس والمغرب والجزائر، بانتظار ما ستؤول إليه الأمور في ليبيا. كما أن المجتمع المدني الراسخ في بلدان مثل لبنان والأردن سيحصل على فرص أكبر للمشاركة في صناعة القرار السياسي من خلال التمثيل البرلماني النزيه والخارج عن التلاعب والتزوير في حال صدقت نوايا الإصلاح. أما في دول الخليج العربي والتي كانت إلى حد بعيد منغلقة على نمو المجتمع المدني فقد ظهرت عدة جميعات بيئية وتنموية في الإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر والكويت كما انتشرت مراكز الأبحاث والمؤسسات التعليمية ذات التأثير الكبير والموارد المالية الضخمة والتي أصبحت تستقطب العديد من الكفاءات العربية في مجالات الاستدامة مما يبشر بوجود توجه لا رجعة عنه إلى تقوية المؤسسات الرديفة للحكومات.
ويمكن إظهار مدى التقدم في وعي المجتمع المدني العربي تجاه قضايا الاستدامة من خلال المساهمة الجماعية لعشرات منظمات المجتمع المدني العربية من خلال وثيقة مرفوعة إلى سكرتاريا اللجنة التحضيرية لمؤتمر قمة الأرض ريو + 20 والتي تم تقديمها من خلال الشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية والتي ركزت على عدة قضايا في التنمية المستدامة. بالنسبة لشعار الاقتصاد الاخضر اشار المجتمع المدني العربي إلى أن اي توافق على مفهوم الاقتصاد الأخضر يجب أن يعتمد على مبادئ وقيم التنمية المستدامة التي تم إقرارها في ريو 1992 والا يتحول المفهوم إلى استخدامه كأداة للحمائية الدولية أمام تدفقات السلع والخدمات من الدول النامية. ولكن من المؤكد أن مفهوم الاقتصاد الأخضر بات ينتشر بشدة في المنطقة ويمكنة أن يمثل أداة مناسبة لتحقي نقلة نوعية في الأدوات والسياسات الاقتصادية نحو آفاق أكثر استدامة، في حال تم تبنيها ودعمها عن طريق التحولات الديمقراطية التي تبعث الأمل في المنطقة.
ويمكن لكافة الدول العربية الجادة في التحول نحو مستقبل اقتصادي مستدام أن تستخدم توصيات وتفاصيل التقرير السنوي الرابع للمنتدى العربية للبيئة والتنمية والصادر في تشرين الأول 2011 تحت عنوان “الاقتصاد الأخضر” ليكون وثيقة تخطيط استراتيجي لهذه الدول.
أهم الطموحات المحسوبة التي يطرحها التقرير تتمثل في النقاط التالية:
1- يمكن ان يؤدي التحول إلى الممارسات الزراعية المستدامة إلى توفير 5-6% من الناتج المحلي الإجمالي نتيجة لزيادات انتاجية المياه ورفع مستوى الصحة العامة وحماية الموارد البيئية وسيبلغ إجمالي هذا التوفير 114 بليون دولار. كما أن إعادة إحياء القطاع الزراعي عن طريق الاستثمارات المناسبة والأبحاث والتطوير ستؤدي إلى تخفيض الواردات على مدى السنوات الخمس القادمة بنسبة 30% وهذا يعني بدوره توفير 45 بليون دولار.
2- الدول العربية بحاجة إلى توظيف ما لا يقل عن 1.5% من ناتجها المحلي الإجمالي سنويا في مجالات الصرف الصحي والبنى التحتية للمياه وابتكارات كفاءة استخدام المياه وتقنيات إعادة التدوير من أجل تلبية الطلب المتنامي على المياه وهذا ما يصل إلى 28 بليون دولار سنويا.
3- يمكن تخفيض متطلبات الطاقة للكثير من العمليات الصناعية حيث تخفض التحسينات في كفاءة الطاقة في صناعة الإسمنت الاستهلاك ما بين 20-40% لكل طن إسمنت، كما يمكن توفير 150 ألف بليون كيلوواط في الساعة سنويا من العمليات الصناعية عن طريق تحسين كفاءة الطاقة 30% أي 12.3 بليون دولار.
4- يمكن توفير 280 بليون كيلوواط سنويا من قطاع النقل في حال استخدام السياراتى الهجينة ورفع سوية النقل العام أي ما قيمته 23 بليون دولار كما يمكن تحقيق تحسين في كفاءة الطاقة بنسبة 40% في النقل بالسكك الحديدية.
5- يمكن أن يساهم تحويل الأبنية التقليدية إلى أبنية خضراء في معالجة مشاكل البطالة في المناطق الحضرية وخلق كوادر جديدة من العاملين كما يمكن لإنفاق 100 بليون دولار في تخضير 20% من الأبنية الموجودة حاليا في البلدان العربية إلى إنتاج 4 ملايين وظيفة جديدة.
إن أحداث مثل هذا التحول الجذري في السياسات الاقتصادية يحتاج إلى تغير سريع وجذري في عقلية اتخاذ القرار في المنطقة وهذا بدوره يتطلب المزيد من الوعي والضغط من قبل قوى المجتمع المدني والرأي العام للدفع نحو دمج البعدين الاجتماعي والبيئي وبشكل مباشر في محاور تحديد السياسات الاقتصادية والتنموية.