مصطفى كمال طلبه
كيف بنت شركة كويتية مقر “يونيب” في نيروبي؟
مصطفى كمال طلبه هو مؤسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة». عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيذي حتى عام 1992. عالم حصل على الدكتوراه من الكلية الامبراطورية في جامعة لندن عام 1949، وشغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ«يونيب». وقد كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد). ننشر بتزامن مع مجلة «البيئة والتنمية» مذكراته البيئية في حلقات.
مصطفى كمال طلبه
ذكرتُ في الحلقة السابقة أن الحكومة الكينية وافقت على اقتراح المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) بدفع نصيبها في إيجار المقر للسنوات الثلاث الباقية مقدماً. لم يكن هذا حباً في عمل المنظمة الوليدة، بل لأن كينيا بدأت تشعر أن هناك مناورات لإثبات أن اختيار هذا المقر البعيد غير مناسب لعمل «يونيب»، فأرادت أن تبدي تأييدها لعمله واستعدادها لتسهيل أنشطته.
بعد انتخابي مديراً تنفيذياً للمنظمة بسنوات ثلاث، قابلت أول مشكلة سياسية عاصفة في عملي. كنت قد تعودت على الخلافات الشديدة بين الشمال والجنوب حول برنامج المنظمة وتمويله كل عام منذ عينت نائباً لمدير المنظمة. ولكن خلال عامي 1978 و1979 واجهتني مشكلة لا علاقة لها بالبرنامج أو التمويل أو قضايا البيئة عموماً، وإنما مشكلة حكمتها السياسة والتكتلات الإقليمية.
عام 1978، أثارت الدول النامية قضية المبنى في نيروبي. ذكروا في الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه من غير المعقول أن أول مبنى للأمم المتحدة ينشأ في العالم النامي لا يكون على مستوى لائق تدفع كلفته الأمم المتحدة من ميزانيتها العادية، ولا يمكن أن يستمر تمثيل الأمم المتحدة لأول مرة في الدول النامية بهذا المبنى البسيط الذي أنشئ في نيروبي. وافقت الجمعية العامة عام 1978 على إدراج 41 مليون دولار لإنشاء مبنى كامل لكل من «يونيب» ومركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (Habitat) الذي كان أنشئ عام 1978، ومعهما مكاتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للطفولة والمكاتب الوطنية لقسم الأمم المتحدة الإعلامي ولوكالات الأمم المتحدة المتخصصة الموجودة في كينيا.
طرحنا المناقصة، وجاء العرض الأدنى من شركة «سوليل بونيه» الإسرائيلية، لأنها كانت تعمل في كينيا ومعداتها كانت موجودة هناك. كان العرض أقل من الشركة التالية، الصينية، بمبلغ مليوني دولار.
ينص نظام المناقصات في الأمم المتحدة على أنه، عندما يكون هناك نشاط ذو وضع سياسي معين أو كلفة عالية، يشكل الأمين العام لجنة لفحص العطاءات من أقدم نائب للأمين العام مقيم في المنطقة التي يوجد فيها النشاط (كنت أنا في ذلك الوقت) ومعه نائب الأمين العام للإمدادات ونائب الأمين العام المستشار القانوني للأمم المتحدة، وتقدم توصياتها إلى الأمين العام وهو الذي يبت في الأمر.
تشكلت اللجنة، لأن كلفة المبنى الجديد عالية وتحيط به أوضاع سياسية شائكة. كان واضحاً أن أقل عطاء هو عطاء الشركة الإسرائيلية. رفعنا توصيتنا بذلك. علم بها السفراء في نيويورك، فغضب العرب وقال سفراؤهم لدى الأمم المتحدة للأمين العام إنهم لا يقبلون أن تذهب مساهمات الدولة الرسمية في موازنة الأمم المتحدة إلى شركة إسرائيلية. بعد ذلك حذت الدول الأفريقية الحذو نفسه وكررت له ذاك الكلام.
موافقة مع الشكر
كان مقرراً أن تنتقل المكاتب المحلية للبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وعدد آخر من منظمات الأمم المتحدة معنا إلى المبنى الجديد. سألت مديري كل هذه المكاتب عما اذا كانوا جادين في الانتقال الى المبنى الجديد، وجاء الرد بالنفي من غالبيتهم، لأن المكان بعيد وهم يريدون البقاء بجوار الوزارات التي يتعاملون معها. طلبت منهم إرسال هذه الردود كتابة، ووصلتني الردود قبل أن يحصل الأمين العام على الفتوى القانونية. عندما وصلتني تلك الفتوى اتخذت قراراً بإلغاء المناقصة بالكامل. وهاجت الدنيا، وهاجمتني كل الصحف الغربية، وخاصة البريطانية والأميركية. ظلت شهراً كاملاً تهاجمني وتصفني بأنني اتخذت قراراً سياسياً لا علاقة له بحياد الأمم المتحدة وأنني متحيز ضد إسرائيل.
طلبت الدول الأعضاء في اللجنة الاستشارية الخاصة بالشؤون المالية والإدارية في الأمم المتحدة (التي تضم ممثلي بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا ـ وكلها دول متعصبة جداً لمصلحة إسرائيل) أن أمثل أمامهم لأوضح أسباب هذا القرار. حضرت لقاءهم، وأوضحت أنني اتخذت القرار ليس لأي أسباب سياسية وإنما لأن مكتبي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي لا يرغبان في الانتقال الى المبنى الذي سيعد. وقلت إن المبنى الجديد مصمم ليضم موظفي مكاتب البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمكاتب المحلية الأخرى للأمم المتحدة بالاضافة الى موظفينا وموظفي المنظمة الجديدة «هابيتات». ولكن عدداً كبيراً من الموظفين لن يتواجد ـ بسبب رفض البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وعدد من مكاتب الأمم المتحدة في نيروبي الانتقال الى المبنى الجديد ـ فلم يعد هناك مبرر لإنشاء الوحدات الاثنتي عشرة المقررة، ويلزم اختصارها الى ثماني وحدات على الأكثر.
ظلوا يومين كاملين يناقشونني في كل ما ذكرت. ثم أصدروا قراراً ينصح الجمعية العامة بالموافقة على قرار مدير «يونيب» بإلغاء المناقصة وإعداد تصاميم جديدة وطرح مناقصة جديدة. واقترحوا أن أقدم التصاميم الجديدة خلال شهر ـ عمليات تعجيز! أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بالموافقة على اقتراح المدير التنفيذي لـ«يونيب»، وأصررت على أن تكون الموافقة مصحوبة بالشكر لأنني وفرت للأمم المتحدة ثمانية ملايين دولار. فتضمن القرار شكر المدير التنفيذي.
«الخرافي» تنشئ المقر
بعد صدور القرار، أثار مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك قضية مركز المؤتمرات، وضرورة وجوده في أول مبنى للأمم المتحدة في دولة نامية. وانضمت إليه كل الدول العربية والأفريقية، وتلتها بقية الدول النامية. طالبوا جميعاً بضرورة إقامة مركز للمؤتمرات في المبنى الجديد، ووافقت الجمعية العامة على ذلك. فكان أن اختصرنا المباني من اثني عشر مبنى ـ كل مبنى عبارة عن طابقين ـ ستة في كل جانب ـ الى ثمانية، أربعة في كل جانب.
بعد ذلك زرت ثلاث دول عربية، الكويت والسعودية والعراق، وأعلمت المسؤولين فيها أن ليس هناك أي ضمان ألا تخفض الشركة الإسرائيلية عرضها أكثر في المرة المقبلة. قلت لهم: «عليكم أن تجدوا الحل، فلن تكون لدي أي مبررات لإلغاء المناقصة مرة أخرى». تقدمت أربع شركات عربية. وبعثتُ ممثلي المنظمة، من غير العرب والأفارقة، ليزوروا هذه الشركات. وكانت منها شركة الخرافي الكويتية، فانبهروا بما رأوه لديها من مستوى عالٍ في الكفاءة والإدارة، وقالوا إنه شيء غير مألوف في كثير من الدول الصناعية.
قدمت الشركات العربية عروضها، وكانت أقل من عرض الشركة الإسرائيلية بأربعة ملايين دولار. وبالفعل رست المناقصة على شركة عبدالمحسن الخرافي الكويتية. تم كل هذا بعد محادثات اتفاقية السلام التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل مباشرة، تلك المعاهدة التي أدت الى تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية ونقل مقرها الى تونس. أرسلت إسرائيل إلى الرئيس السادات رسالة قالت فيها إن مصطفى طلبه متحيز للعرب الآخرين ضد السادات وضد إسرائيل، ويسيء للعلاقة بين مصر وإسرائيل. حدثوني هاتفياً من الرئاسة أثناء إحدى زياراتي للقاهرة، وقالوا إن السيد حسني مبارك نائب رئيس الجمهورية يريد أن يقابلني. قابلته، وقال لي إن الرئيس خارج مصر وقد طلب منه أن أفسر له ما ورد من إسرائيل. سردت عليه القصة كاملة، وأبلغ الرئيس السادات بهذا. كانوا يريدون إحداث وقيعة بيني وبين السادات. لم ينجحوا.
بين مطرقة الاستخبارات وسندان إسرائيل
قابلتني مشكلتان أخريان لاحقاً كانت وراءهما أيضاً السياسة لا غير. الأولى عام 1987، وكانت الحرب الباردة على أشدها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. أخطرني المندوب الأميركي الدائم لدى «يونيب» في نيروبي أن البيت الأبيض يطلب إلغاء الدعم الطوعي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى «يونيب» ومقداره عشرون مليون دولار (تمثل أكثر من 20 في المئة من المساهمات الطوعية في صندوق البرنامج) لأنني أترك المنظمة مفتوحة لرجال الاستخبارات السوفييت كي ينقلوا كل شيء الى حكومتهم. كان هذا أمراً غريباً، ولكنها الحرب الباردة. فمنذ بدء عمل البرنامج كان معنـا في المناصب الكبرى الأميركي بيتر ثاتشر، الذي كان يعمل أصلاً في وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) أثناء فترة رئاسة جورج بوش الأب عندما كان رئيساً لتلك الوكالة، والروسي ايفتييف. وكلنا كان يعلم أن الترشيح لأي منصب كبير في الأمم المتحدة من قبل الاتحاد السوفييتي لم يكن يتم إلا إذا كان للمرشح وضع خاص مع الاستخبارات السوفييتية (KGB).
لم يكن هذا يقلق موريس سترونغ أو يقلقني، إذ لم يكن لدى البرنامج أي أسرار لا يعرفها كل مندوبي الدول الدائمين المعتمدين لديه في اللقاءات الشهرية التي كنا نعقدها معهم. وفي اجتماع المندوبين الدائمين التالي أخطرتهم بما تم، وذكرت أن هذه إهانة لا أقبلها لنفسي أو لـ«يونيب» وأنني سوف أتعامل مع الموضوع. نقل المندوب الأميركي ما دار في اجتماع السفراء الى وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن، وعلى أثر ذلك طلب نائب وزير الخارجية الأميركية مقابلتي. وعندما كنت في زيارة إلى واشنطن زرته في مكتبه، وأعدت عليه ما قلته لسفراء الدول في نيروبي. قال لا بد أن هناك سوء فهم في الموضوع، وطلب مني أن أنسى ما نقل إلي، وستدفع الولايات المتحدة نصيبها، وسألني أن أغلق الملف. شكرته وقلت إني لا أستطيع أن أغلق الملف، لأن الموضوع طرح في اجتماع السفراء في نيروبي ولا بد أن أحصل على خطاب من المندوب الأميركي الدائم يلغي ما قيل عن أسباب سحب المساهمة، لعرضه على السفراء. وقد تم هذا فعلاً.
المشكلة الثانية واجهتني عام 1991. تلقيت رسالة موقعة من خمسة أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي يذكرون فيها أنهم بصدد مناقشة مساهمة الولايات المتحدة الطوعية في موازنة «يونيب» في المجلس، وطلبوا إجابات عن الأسئلة الثلاثة الآتية وكلها خاصة بإسرائيل:
1. لماذا لم أعين في برنامج الأمم المتحدة للبيئة أي موظف من إسرائيل؟
2. لماذا لم أعين أحداً من إسرائيل في الأنشطة الاستشارية الكثيرة في «يونيب»؟
3. لماذا لم أزر إسرائيل طوال 18 عاماً على رغم أنني زرت أكثر من ثمانين دولة وذهبت إلى بعضها مرات عديدة؟ كان نوابي طوال فترة رئاستي للمنظمة من الولايات المتحدة، أختارهم أنا، وعادة يكون من أختاره غير من ترشحه واشنطن. طلبت نائبي الأميركي في ذلك الوقت ويليام مانسفيلد، وأخبرته بفحوى الخطاب، وقلت إنني أعلم أن المحرك الأساسي هو فلان (واحد من الخمسة) لأنه مشايع جداً لإسرائيل. رجوت نائبي أن ينقل ردي اليه بالهاتف ويسأله اذا كانوا يريدون رداً مكتوباً.
كان ردي الذي نقله نائبي هو: إن مدير المنظمة لا يعين أحداً. التعيين يتم بناء على اقتراح لجنة شؤون العاملين، التي تختار أفضل ثلاثة مرشحين تقدمهم الى المدير التنفيذي للاختيار من بينهم. لم تقدم اللجنة أي اسم من إسرائيل، وهذا يعني أن إسرائيل لا ترشح إلا من هم في مستوى متواضع من القدرة العلمية لا يرقى الى مستوى المنافسة مع مرشحي الدول الأخرى. ثم إنني عينت أحد الإسرائيليين مستشاراً في مكتب اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط في أثينا. عمل في المكتب لأشهر معدودة، واستقال لأنه لم يستطع التأقلم مع زملائه في المكتب. وأوضحت أنني أزور الدول بدعوة من وزير البيئة ـ وكان وزير البيئة الإسرائيلي في ذلك الوقت هو رئيس الوزراء ـ واذا وردت إلي دعوة من الوزير المختص (رئيس الوزراء) فإنني أزور إسرائيل في خلال أسبوع من ورود الدعوة. ولكن لدي قرار من المجلس التنفيذي لـ «يونيب» بأن أقدم له تقريراً سنوياً عن حالة البيئة في الأراضي المحتلة من فلسطين، فإذا زرت إسرائيل فلا بد أن أقضي يوماً في الأراضي المحتلة للاطلاع على الأوضاع البيئية.
نقل الرد بالهاتف، وكان التعقيب: لا نريد شيئاً مكتوباً وسوف نوافق على المساهمة. لم يكن لهذا أي علاقة بعمل «يونيب» أو كفاءته، ولكن كان الأمر كله مرتبطاً بدعم مجلس الشيوخ الأميركي لإسرائيل.
شخصيات في حياتي
صلاح العفيفي
المرحوم الدكتور صلاح العفيفي، أستاذ الجراحة السابق في كلية طب القاهرة، كان زميلي في السنة الخامسة الثانوية وكنا نجلس على مقعد واحد. حصلنا على التوجيهية (الثانوية العامة الآن) وكان ترتيبي فيها على مستوى مصر متقدماً جداً، وكان ترتيبه متأخراً عني كثيراً.
كان كل أملي وأنا شاب في السادسة عشرة من عمري أن أدخل المدرسة الحربية (الكلية الحربية الآن) بعد حصولي على التوجيهية. اتفقت مع خالي، وكان صديقاً شخصياً لعلي ماهر باشا عندما كان رئيساً لديوان الملك فاروق، أن يحضر لي منه بطاقة توصية، فقد كان معروفاً أن اختبار القدرات (كشف الهيئة كما كانوا يسمونه في ذلك الوقت) هو اختبار التوصيات. تم هذا فعلاً، وتقدمت بأوراقي الى المدرسة الحربية. نجحت في الكشف الطبي وقدمت التوصية وحضرت “كشف الهيئة”. وعند ظهور النتيجة لم أجد اسمي بين المقبولين في المدرسة. ذهبت الى المسؤول، فقال إن أوراقي قبلت خطأً لأن قانون المدرسة الحربية ينص على أن يكون عمر الطالب سبعة عشر عاماً في أول أيلول (سبتمبر) من السنة التي يتقدم فيها لدخول المدرسة، ويجوز لوزير الحربية أن يستثني من هذا الشرط في حدود ثلاثة أشهر. وكان عمري عند دخول المدرسة – في أول أيلول (سبتمبر) 1939 – ستة عشر عاماً وثمانية أشهر وثلاثة أسابيع، أي أقل من الحدود القصوى لاستثناء وزير الحربية بسبعة أيام. وقال لي ذلك المسؤول: “عد في دفعة كانون الثاني (يناير) 1940 وستقبل مباشرة”.
خرجت من المدرسة وركبت الترام، وإذ الذي يجلس بجواري هو زميلي صلاح العفيفي. سألني أين كنت، فقصصت عليه ما حدث. نظر الي باستغراب وقال: “كيف يمكن لشخص ترتيبه بهذا التقدم في البكالوريا أن يدخل إلى الحربية؟” سألته ماذا فعل هو. قال: “تقدمت الى كلية الطب، ولا بد أن تفعل الشيء نفسه. تقدم بأوراقك الى كلية العلوم التي يدرس فيها طلاب السنة الإعدادية في كلية الطب”. وشرح لي كيف أصل الى كلية العلوم. ارتحت لرأيه وسحبت أوراقي من المدرسة الحربية وقدمتها إلى كلية العلوم.
ذهبت لمراجعة كشوف المقبولين في كلية الطب، فلم أجد اسمي بينهم، ووجدت اسم زميلي صلاح العفيفي ضمن القائمة. عجبت وذهبت إلى حافظ سجل الكلية الأستاذ زكي عمر. سألته ماذا حدث؟ سألني هل تقدمت باستمارة بيضاء أم حمراء؟ صمتُّ، فلم أكن أذكر لون الاستمارة التي ملأتها، ولم أكن أعرف أصلاً أن للاستمارات ألواناً مختلفة. طلب ملفي وقال: “يا بني، لقد تقدمت باستمارة بيضاء لدخول كلية العلوم”. كنت لا أعرف الفرق بين كلية العلوم ودار العلوم، فانفجرت قائلاً: “لا أريد أن أكون مدرساً للغة العربية”. شرح لي الرجل بهدوء نظام كلية العلوم بالتفصيل. وكان ردي أنني أريد كلية الطب. فقال: “لا بد أن تبحث عن زميل قُبل في إعدادي الطب ويريد التغيير الى كلية العلوم وتتبادل معه”. لم أبذل أي جهد في هذا الشأن، وقبلت بالأمر الواقع.
وهكذا دخلت كلية العلوم عن طريق الخطأ.
وقد فوجئت أن ستة من الأوائل في التوجيهية في ذلك العام، بمن فيهم الأول والثاني والخامس والسابع والعاشر، كانوا معي في كلية العلوم. وكان التنافس شديداً.
حسين سعيد
كان الدكتور حسين سعيد مدرسي في السنة الأولى في كلية العلوم. وكان عائداً لتوه من كامبريدج، وكنا نحبه كلنا – تلاميذه – حباً جارفاً.
أشرف على رسالتي للحصول على درجة الماجستير. وعندما عدت الى القاهرة بعد حصولي على الدكتوراه، استقبلني بوده المعهود وقال: “يا بُني، الدكتوراه التي حصلت عليها هي بداية المعرفة وليست نهايتها، إنها مجرد دليل على إتقانك لأسلوب البحث العلمي. عليك أن تبدأ فوراً الإشراف على باحث أو اثنين لتتعود قيادة البحوث، وإلا سوف تصدأ مثل الباقين.
ثم قام بعمل لا يدل إلا على خلق الأستاذ الحق. قال: “أحمد نجيب (ابن شقيقته) يدرس للدرجة الخاصة في علم النبات، وأنت تعلم أنكم في الدرجة الخاصة تقومون ببحث صغير للتدريب. وقد أعطيت أحمد نقطة بحث يقوم بها، ولكنني سأسحبها منه، وعليك أنت أن تحدد له نقطة بحث في الموضوع الذي درسته للدكتوراه. وهناك معمل فارغ يمكنك استخدامه وشراء ما تحتاج إليه من أجهزة”.
لا أستطيع أن أشرح مدى تأثري بهذا العمل. وقد تم ذلك. وعلى أثره أشرفت على تسع رسائل للماجستير وثمان للدكتوراه، وأصبحت لي مدرستي العلمية المتميزة. كلهم أصبحوا أساتذة في جامعات مصرية مختلفة، وخلق كل منهم مدرسته العلمية، ونشرت معهم جميعاً بحوثاً علمية كثيرة في مجلات علمية عالمية في كثير من دول العالم، الأمر الذي أكد مستواي العلمي وساعدني كثيراً في إدارة “يونيب”.
أسرتي الصغيرة الجديدة
لم أرزق بأولاد من زوجتي الأولى المرحومة سنية زكي لبيب. وتزوجت الدكتورة منال البطران، أستاذة التخطيط العمراني في المركز القومي لبحوث البناء والإسكان في القاهرة. كانت منال – ولا تزال – زوجة رائعة. لقيَتْ قبولاً واضحاً من كل أصدقائي على رغم أنها تصغرنا جميعاً في السن. وهبها الله قبولاً كبيراً لدى كل من تلقاه. الله يرعاها ويوفقها. قضينا قرابة أربع سنوات من دون أولاد وقدرنا إن أراده الله ألا يكون لي أولاد. ثم أتى فيض من كرم الله، وبدلاً من أن يرزقنا بطفل رزقنا بتوأمين – كامل وابراهيم – في 24 أيار (مايو) 2005، يملآن حياتنا بهجة وضجة.
هذان الطفلان غيرا بالكامل نظرتنا إلى الحياة. أصبحت حياة منال وحياتي مرتبطتين تماماً بهما.
بعد ولادتهما كانت مشكلتنا أن نجد آنسة مؤهلة ترعاهما. وافقت منال في إقناع إحدى الممرضات المتميزات في مستشفى دار الفؤاد في مدينة ستة أكتوبر حيث تمت الولادة، وهي إحدى خريجات كلية التمريض في جامعة القاهرة. قبلت أن تعمل معنا في إقامة دائمة. عاشت معنا نجلاء سنتين حتى تزوجت. تردد علينا بعدها عدد من المربيات المقيمات، ولكنهن جميعاً كنّ أقل كثيراً منها في مستوى الأداء. نجلاء سيدة كريمة لا تزال حتى الآن تتصل بمنال هاتفياً للاطمئنان على كامل وابراهيم.
عندما وصل عمرهما الى سنتين بدأنا نبحث لهما عن حضانة، ووفقنا الى حضانة ألمانية قريبة من منزلنا. ثم التحقا بمدرسة صلاح الدين التركية الدولية في القاهرة الجديدة. أنهيا مرحلة روضة الأطفال فيها ودخلا في العام الدراسي 2011 – 2012 الصف الأول الابتدائي.
أصبحت مواعيد إجازاتهما هي التي تتحكم في إجازاتنا، وأصبح الاهتمام بحاجاتهما وصحتهما وواجباتهما المدرسية اليومية شغلنا الشاغل.
حزنتُ لدخول ولدينا مدارس أجنبية، لأنني معتز أشد الاعتزاز بمصريتي. ولكن مستوى التعليم في المدارس الحكومية وتهالكها فرضا علي أن ألجأ الى مدارس خاصة أجنبية. اخترنا المدرسة التركية لأنها تهتم بتعليمهما الدين واللغة العربية والأخلاق والارتباط بمجتمعهما المصري.
تغيرت حياتي وحياة زوجتي تماماً بعد أن رزقنا الله هديته. بدأنا نهتم بتأمين قدر معقول من المستقبل لهما. نحن نثق تماماً بأن مستقبلهما في يد الله سبحانه وتعالى، ولكننا نسعى لنؤدي واجبنا نحو ذلك المستقبل عن طريق الجهد والعرق والكسب الحلال.
أدعو ربي أن يتقبلهما بقبول حسن وينبتهما نباتاً حسناً، فيشبّان على مخافة الله والرضا والقناعة وحب الآخرين. دعائي الدائم لهما أن يهديهما الله الى السير على الدرب الذي رسمه رسولنا الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – حين قال “أحب الناس الى الله أنفعهم، وأحب الأعمال الى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربه أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً. ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في المسجد شهراً. ومن كف غضبه ستر الله عورته. ومن كظم غيظاً – ولو شاء أن يمضيه أمضاه – ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة. ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام”.
أعيش دائماً وهذا الحديث النبوي الشريف ماثل أمامي وأحمله في حافظتي. وأرجو الله أن يسير ابناي في الطريق نفسه.
عصام الدين الحناوي
الدكتور عصام الدين الحناوي من أبناء كلية العلوم، وهو الآن أستاذ في المركز القومي للبحوث. عُيِّن في “يونيب” – وكانت هذه أول معرفتي به – مديراً لشؤون الطاقة وشؤون إعداد التقارير السنوية عن حالة البيئة في العالم. قدم نموذجاً للعالِم الفذ الذي يعتز بعلمه وكرامته، وأعد تقارير سنوية على أعلى مستوى من الجودة. كان منسقاً لإعداد تقرير “حالة البيئة في العالم” بين عامي 1972 و1982، واشترك في إعداد تقرير “حالة البيئة 1972 – 1992” الذي نشر بمناسبة مؤتمر قمة الأرض، كما أعد منفرداً مسودة كتابي الوحيد باللغة العربية “إنقاذ كوكبنا”.
عاد عصام الى المركز القومي للبحوث قبل تركي لمنصبي في “يونيب”. وعندما أنشئ المركز الدولي للبيئة والتنمية عاد ليعمل معي حتى الآن. عصام قيمة علمية أعتز بها، وهو من القلائل الذين عملت معهم وأطمئن كل الاطمئنان الى أدائه الدقيق وأمانته العلمية المتميزة.
(ينشر بالتزامن مع مجلة “البيئة والتنمية” عدد كانون الأول/ديسمبر 2013)