التخطيط البيئي والأمان العمراني (1)

محمد التفراوتيمنذ 11 دقيقةآخر تحديث :
التخطيط البيئي والأمان العمراني (1)

آفاق بيئية: د. حمدي هاشم
drhhashem@gmail.com

اجتهاد رؤيوي

انخرطت في سلك “الجغرافية البيئية”، لأكثر من ثلاثين عاما مضت، من الاجتهاد في الأبحاث والتطبيقات المهنية، ودراسات تقويم الأثر البيئي، ومواقع توطين المشروعات الاقتصادية، وذلك من خبرة معمقة في مجال العمران البيئي. وقد شاركت في عديد من دراسات: شعبة البيئة بالمجالس القومية المتخصصة، واللجنة النوعية للأسس والمعايير البيئية بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري، ومجلس العلوم الهندسية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، ومشروعات الهيئة العامة للتخطيط العمراني، وغيرها. والمشاركة في ندوات ومؤتمرات علمية حول البيئة والعمران، ومنها: ندوة “التحولات الحضرية في إطار التخطيط العمراني والإقليمي للقاهرة الكبرى”، التي عقدتها جمعية التخطيط العمراني بالاشتراك مع جمعية المهندسين المصرية (1991)، وندوة “حق الإنسان في بيئة سليمة”، مع جمعية الارتقاء بالبيئة العمرانية، وجمعية حقوق الإنسان بمصر، بالاشتراك مع المركز القومي لبحوث الإسكان والبناء (2007)، وكذلك مؤتمر الحوار الوطني العلمي عن “انتشار التنمية العمرانية المستديمة وتوزيع السكان في مصر”، بالمركز القومي لبحوث الإسكان والبناء، بالاشتراك مع المجلس المصري للعمارة الخضراء (2011).
ناهيك عن مقالات علمية وثقافية، وحلقات نقاشية، وورش عمل، ومحاضرات (عامة، تدريب، وتوعية بيئية)، ومشاركات ثقافية، وغير ذلك. ومن المحاضرات التي لا تفقدها الذاكرة، لارتباطها بمرحلة زمنية وأثر علمي، محاضرة في طلبة دبلومة الهندسة الخضراء عن “البيئة والمدينة”، بدعوة من المرحوم الدكتور “بهاء بكري”، استاذ التحكم البيئي في قسم العمارة بكلية الهندسة، جامعة القاهرة (2007).

الغاية والمعوقات

استقر استنتاجي بأن غاية التخطيط البيئي هو “الأمان العمراني”، في الحاضر والمستقبل، وبمشروعات إعادة التنظيم المكاني للعمران القائم بالأسس والمعايير البيئية (ذات الخصوصية المصرية)، التي تحافظ على سلامة البيئة والإنسان، وتحض على تفادي الكوارث في المباني بالصيانة الدورية الإلزامية، والحفاظ على الثروة العقارية. وكانت قد طاردتني تساؤلات من حيرة وتشكيك في الثوابت العملية حول قضية العمران، وسرعان ما استبان السر، في تشابك معوقات تنفيذ “الأمان العمراني” مع وجود خلل هيكلي مرتبط بنوعية السياسيات الحكومية، لإدارة وتعظيم الموارد الاقتصادية والبيئية المتاحة، وذلك لإحداث التنمية الشاملة في البلاد، وترسيخ التوازن بين العدالة المكانية في العمران، والعدالة الاجتماعية بين السكان، والهدف العظيم في تأصيل عدالة توزيع الثروة بين مختلف مناطق الحيز العمراني للدولة، دون طغيان.

الرؤية المتكاملة

يملك خبراء العمران البيئي رؤية متكاملة لتشخيص وتقييم وضع وطبيعة النمو الحضري، واستخلاص بعض الأسباب والقضايا الهامة المؤثرة في صورة العمران القائم، شديدة الصلة بالعمل على مكافحة الفقر، وإعادة توزيع الثروة، علاوة على تكلفة محاكاة الاتفاقيات الدولية لإبطاء معدلات التدهور والتلوث البيئي، ومنها ثمانية رئيسية، ذات علاقة بعدم وصول التخطيط البيئي لإنجاز الأمان العمراني، وهي:
– التزايد السكاني وانتشار ظاهرة التحضر، وارتفاع نسبة الحضرية، في مقابل انحسار وتقلص دور الريف، مع الاستخدام الجائر لعناصر البيئة الطبيعية، وأثر ذلك في اختلال التوازن البيئي على المستوى المحلى والإقليمي والعالمي.
– التحول من التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه، ذلك المجتمع شديد الصلة بسياسات الاقتصاد الليبرالي المحدث، التي تهدف إلى إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، يتألف من تكتلات اقتصادية منفتحة على نفسها داخلياً، ومتعاونة بعضها مع بعض خارجياً، التي ليس من بين أهدافها مراعاة الاختلاف، والخلل الاقتصادي، بين الدول، ولا سيما الدول التي تعاني الفقر.
– اختلال العلاقة بين دول الشمال والجنوب، من اختلاف الرؤية تجاه التنمية والبيئة، مع تنامي دور المجتمع المدني، وظهور جماعات الضغط السياسي (أحزاب الخضر) بالدول المتقدمة، وأثر ذلك في تصدير الصناعات القذرة (شديدة الضرر بالبيئة)، وتهجيرها داخل الدول الفقيرة، الباحثة عن بقايا الفوائض المالية، بغض النظر عن تلك الآثار البيئية والاقتصادية للتلوث، ولا سيما ذلك الفقد الاقتصادي، نتيجة انتشار الأمراض المرتبطة بالتلوث الصناعي، وتدهور صحة السكان.
– غياب التخطيط الإقليمي والعمراني من المنظور القومي، في مقابل ظاهرة العشوائيات، والفوضى العمرانية في مصر، حيث لم تحقق العلاقة بين المدينة والقرية تبادل المنفعة، في ظل اقتصاد يحترم تلك العلاقة العضوية التبادلية، فنمت وتنمو معظم المدن على حساب ندرة الأرض الزراعية.
– كهربة الريف وتغير التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للسكان، وتبوير الأرض الزراعية، لصالح بناء المساكن، ولا سيما بمناطق الفصل بين المدينة والريف، أي في الأطراف حول المدن.
– تعثر قانون البيئة (رقم 4 لسنة 1994) بين التشريع والتطبيق (2)، ونقص في الدقة والصياغة، واختيار التقنية القانونية، وسلامة الأساس العلمي في بعض مواضعه. ولأن المشكلة ذات طابع أخلاقي ينبع من العقيدة والوعي والإدراك والإحساس بالمسئولية تجاه البيئة، فلم تدركها إصدارة القانون في استكمال وتدقيق المعنى وتقدير العقاب والثواب، وفي ذلك خروج عن دائرة تفعيل النسق القيمي للأخلاقيات العامة، تجاه المحافظة على البيئة من التلوث، وصيانتها من أجل الأجيال القادمة.
– تفشى الأمية البيئية، وغياب السياسة الحكومية، وتزايد الضغط السكاني على البيئة المحيطة، وتعثر التنمية البشرية في التغلب على مشكلات التعليم والفقر، والتفاوت الاجتماعي، والدعوة لإصلاح التعليم وربطه بالهوية الثقافية، والتنوع في ظل تبنى منظومة التعليم من أجل التنمية المستديمة.
– أهم القضايا في إطار تقهقر دور الدولة، أن التغيير والإصلاح المنشود في التعليم والبيئة والمجتمع لن يثمر عن نتائج إيجابية إلا في ظل وجود إرادة سياسية واعية، ومشاركة فعلية وطنية من جماعات المجتمع المدني، وذلك لتقرير حق الإنسان في بيئة سليمة.

ركائز منظومية

لا ريب في تطبيق “منظومة التخطيط العمراني المدمجة”، بما تشمله من كافة التخصصات العلمية، لتحقيق التوافق بين العناصر الطبيعية والبيئية، وتوفير التناغم في العمران، والتي تعمل على تعظيم الاستفادة من معطيات المكان: الأرض، مواد البناء، الأشجار والنباتات، المناخ والبيئة، وغيرها، بما يخدم كافة احتياجات السكان (3) الاجتماعية والاقتصادية. وذلك مع الأخذ في الاعتبار حماية منظومة البيئة الطبيعية من التدهور والتلوث باعتماد الأسس والمعايير البيئية في الأعمال العمرانية (4).
وترتكز هذه المنظومة العمرانية إلى:
– مراعاة الأخذ بأسلوب التخطيط الإقليمي في دراسة الموارد الطبيعية والبشرية لتحديد الإمكانيات المتاحة والكامنة لكل إقليم تنموي بما يحقق التوازن بين البيئة والعمران (5).
– معالجة التشريعات والقوانين لتنظم حركة النمو العمراني بما يتناسب مع البيئة المحيطة وإيجاد معايير وأسس فنية موحدة للتخطيط والتصميم البيئي في مصر.
– العمل على إيجاد محفزات لزيادة الاتجاه إلى العمران الأخضر لدعم وتعزيز هذا التجانس مع متطلبات البيئة وتحقق الأمان والراحة المعيشية للإنسان.
– توافق أساليب البناء والتشييد مع معطيات البيئة المحيطة الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات العمرانية.
– تحقيق تقسيم إداري متناغم مع محددات تقسيم الأقاليم التخطيطية للدولة، وتعظيم الاستخدام الأمثل لمساحة البلاد الكلية، وتوظيف العلاقات المكانية، وإثراء مختلف البيئات الجغرافية من أجل الصحة المكانية ورفاهية السكان (6).

مشروع قومي لثروة عقارية مستدامة

لاستكمال بنيوية “الأمان العمراني” في مصر، يجب التفكير مع تكرار الكوارث والانهيارات في إنشاء جهاز قومي لصيانة المباني، على شاكلة ما يوجد ببعض الدول العربية، وكثير من الدول الأجنبية، للحفاظ على الثروة العقارية: برسم السياسات وتوفير السلامة والأمان، وعمل استراتيجية صيانة العقارات، واطلاق شهادة ميلاد للمبنى مقترنة بشهادة صيانته خلال سنوات عمره الافتراضي، وتبادل الخبرات والتدريب مع الدول المتقدمة فيها، والتمويل والتأمين، وتنمية ثقافة الصيانة بين السكان، وغير ذلك من الاشتراطات التشريعية والهندسية والإدارية والاقتصادية والتعليمية والتثقيفية في مجال صيانة المباني السكنية.
وكذلك عمل كود هندسي للصيانة ضمن كود البناء، والالتزام بالمواصفات العامة للتنفيذ، وانشاء مركز معلومات ومحاكم خاصة بالمخالفات العقارية لسرعة الفصل الفوري في القضايا والطعون والاستئناف، وتفعيل دور المجالس المحلية (7) الأكثر تأثيراً في إتمام هذا المشروع القومي.

الهوامش

(*) اللقطة الفوتوغرافية من اليمين (بعد الأول) الدكتور “مجدي علام” أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، الأستاذ الدكتور “محمود غيث” رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية للتخطيط العمراني، وصاحبكم (حمدي هاشم) عضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للتخطيط العمراني. قاعة محاضرات جمعية المهندسين المصرية، ندوة التخطيط لتحقيق الأمان العمراني، الأربعاء 27 أبريل 2016.
(1) حمدي هاشم. الأمان العمراني غاية التخطيط البيئي. ندوة التخطيط لتحقيق الأمان العمراني، الجمعية المصرية للتخطيط العمراني وجمعية المهندسين المصرية بالاشتراك مع اتحاد خبراء البيئة العرب. جمعية المهندسين المصرية، الأربعاء 27 أبريل 2016.
(2) تتناول دراسة نقدية، حول قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 وتعديلاته بالقانون رقم 9 لسنة 2009، نقاط القوة والضعف في القانونين، حيث يركز القانون الأول على وضع الأساسيات لحماية البيئة، من خلال تحديد التلوث (الهواء، الماء، الأرض، والضوضاء) وإلزام المشاريع بتقديم دراسات تقييم الأثر البيئي. بينما جاء تعديل عام 2009 لرفع قيمة الغرامات، وتجريم أفعال معينة، وتحديث بعض المصطلحات لتعكس تحديات جديدة. وتشمل الانتقادات الموجهة لهما قصوراً في تطبيق النصوص، وعدم كفاية الغرامات لتكون رادعة في بعض الحالات، والقصور في تفعيل المسؤولية الجنائية بشكل كامل، وأهمية تفعيل آليات الغرامات النسبية لتكون أكثر فعالية.
(3) محور الانتشار السكاني وتعمير الحيز غير المأهول في صحراوات مصر وسواحلها، العمران الأخضر المستدام. مجلس العلوم الهندسية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا (مايو 2011ـ يوليه 2012). عضو مشارك في دراسة الشرائح السكانية المستهدفة للانتقال للمناطق الجديدة وتهيئتها اجتماعياً وثقافياً لحياتها الجديدة في هذه المناطق. خارطة الطريق (7).
(4) دليل الأسس والمعايير البيئية في الفراغات المعمارية. عضو مشارك في إعداد الدليل، ومقرر اللجنة النوعية لوضع الأسس والمعايير البيئية للتنسيق الحضاري. قرار السيد رئيس مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري رقم (37) لسنة 2011 والقرار رقم (50) لسنة 2011، ثم القرار رقم (62) لسنة (2012).
(5) محور الانتشار السكاني وتعمير الحيز غير المأهول في صحراوات مصر وسواحلها، العمران الأخضر المستدام. مجلس العلوم الهندسية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا (مارس 2011ـ يوليه 2012). عضو مشارك ومقر مناوب في دراسة أنماط خصائص الأقاليم البيئية المختلفة خارج الوادي والدلتا وتحديد الأنماط العمرانية والتنموية الملائمة لها. خارطة الطريق رقم (6).
(6) المؤتمر الدولي الثامن عشر للبناء والتشييد (إنتربيلد). مركز المؤتمرات الدولية، مدينة نصر، السبت 25 يونية 2011. رئيس مشارك ومعقب في جلسة مستقبل التقسيم الإداري للمعمور المصري.
(7) تتمثل أدوار المحليات في إدارة تنفيذ المخططات العمرانية والبيئية في وضع اللوائح، وتطوير البنية التحتية، ومتابعة تطبيق الخطط العمرانية والبيئية على المستوى المحلي، مع مراعاة التنمية المستدامة والتحديات الحضرية. تتضمن مهامها أيضاً تنسيق الجهود مع الجهات الأخرى مثل الحكومة المركزية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، لضمان تحقيق الأهداف المرجوة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!