ما الذي بقي من النظام الغذائي المتوسطي؟

محمد التفراوتي26 أكتوبر 2021آخر تحديث :
ما الذي بقي من النظام الغذائي المتوسطي؟

آفاق بيئية : د.حسان التليلي* 

إذا كان ثمة مطبخ في بلدان المتوسط الجنوبية والشمالية لا يزال قريبا في تركيبته من مواصفات النظام الغذائي المتوسطي فهو المطبخ التركي حسب الذين ينكبون منذ عشرات السنيين على دراسة ما بقي من أصول هذا النظام الغذائي الذي يُضرب به المثل اليوم في العالم كأساس للتغذية المُثلى أي تلك التي يتم التوفيق فيها بين اعتبارات مهمة جدا في علاقة الإنسان بالغذاء. وبين هذه الاعتبارات أساسا تلك التي تتعلق بسلامة الأغذية ومردودها الصحي على جسم الإنسان ولذة الأطعمة وتنوعها وأثرها الإيجابي في الحفاظ على الموارد الطبيعية وفي تعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية بين مستهلكيها.

النظام الغذائي المتوسطي ومعارك الخصوصية

يقول كثير من الذين تعمقوا في دراسة الأبعاد الثقافية والاجتماعية المتصلة بأصول النظام الغذائي المتوسطي وبتاريخه إن سلاطين الإمبراطورة العثمانية هم الذين اخترعوا في الأزمنة المعاصرة ما يمكن وصفه بـ “دبلوماسية النظام الغذائي المتوسطي”. فقد دأبوا على انتداب أطفال من أسر فقيرة في مختلف أقاليم الإمبراطورية إلى قصور هؤلاء السلاطين الذين أعطوا أوامر لكبار طباخيهم تقضي بجعل مطابخ السلطان العثماني مأوى لهؤلاء الأطفال يتدربون فيها لسنوات على إعداد وجبات بسيطة ولذيذة مستمدة من النظام الغذائي المتوسطي. بل إن هؤلاء الأطفال كانوا يتلقون أيضا خلال إقامتهم الطويلة في مطابخ البلاط السلطاني العثماني دروسا في التربية الغذائية وفي آداب الأكل وفي الطب والبيطرة. فيصبح كل واحد منهم بعد هذه السنوات الطويلة التي يقضيها في تحصيل العلم والمعرفة والمهارات بمثابة الموسوعة المصغرة المتعلقة بفنون الطبخ وبقواعد وضع أطعمة مستمدة من روح النظام الغذائي المتوسطي، ولكن مُعدِّيها قادرون على التكيف بسهولة مع العادات الغذائية الخاصة بشعوب خارج المنطقة المتوسطية. وكان سلاطين الإمبراطورية يعيرون قصورَ أولي الأمر في البلدان الصديقة هؤلاء الطباخين الاستثنائيين.

الصورة :مشارِكة في الدورة الثانية والعشرين من مهرجان الكسكس العالمي الذي يقام سنويا في جزيرة صقلية منذ عام 1998.

وفي إطار الحديث عن سياق النظام الغذائي المتوسطي التاريخي لابد من التذكير بأن الزيوت النباتية هي أحد مكوناته الأساسية التي ينبغي إعداد أطعمة بواستطتها بشكل يومي. وواضح اليوم أن المروجين لهذا النظام الغذائي يكادون أن يحصروا في زيت الزيتون هذه الخاصية. وهم محقون إلى حد كبير في ذلك نظرا لفوائد هذا الزيت على الصحة البشرية مثلما تؤكده يوما بعد آخر الدراسات العلمية. ولكن عددا من مؤرخي النظام الغذائي المتوسطي يذهبون اليوم إلى القول إن زيت الكتان كان قبل زيت الزيتون أصل الزيوت المستخدمة في الحمية المتوسطية التي نشأت في جزيرة كريت اليونانية. وبقدر ما تثبت الدراسات والأبحاث العلمية أهمية زراعة شجرة الزيتون في مجالات شتى تتجاوز حدود التغذية، بقدر ما تتأكد يوما بعد آخر أهمية زراعة الكتان الاستراتيجية. وهذا ما راهنت عليه فرنسا على سبيل المثال. فقد أصبح هذا البلد رائدا في العالم في مجال إنتاج ألياف الأنسجة المستمدة من زراعة الكتان. وتؤمن منطقة “النورماندي ” الفرنسية وحدها 50 في المائة من الإنتاج العالمي في ما يخص أجود ألياف الكتان. بل إن كثيرا من مزارعي شمال فرنسا الغربي أصبحوا رُوَّادا في إنتاج زيت الكتان على الصعيد الأوروبي. وهم يكسبون منه أكثر ما يكسب مزارعو جنوب البلاد من زيت الزيتون.
في سياق معارك الخصوصيات الغذائية المرتبطة بهذا النظام الغذائي أو ذاك، لابد من الإشارة أيضا إلى أن منظمة اليونسكو كانت قد أدرجت في نوفمبر-تشرين الثاني-نونبر عام 2010 النظام الغذائي المتوسطي في قائمة التراث العالمي غير المادي بمبادرة من أربعة بلدان متوسطية هي اليونان وإيطاليا وإسبانيا والمغرب انطلاقا من العلاقة الحميمة اليومية التي يقيمها سكان مناطق محددة في هذه البلدان مع هذا النظام الغذائي والطقوس والمهارات والمعارف القائمة من حوله. ومن هذه المناطق منطقة شفشاون المغربية. وقد أضيفت ثلاثة بلدان أخرى في عام 2013 إلى هذه القائمة باعتبارها مختبرا حقيقيا في مجال التعامل الجيد مع أصول هذا النظام الغذائي وروحه وهي قبرص وكرواتيا والبرتغال.

الكسكسي سفير النظام الغذائي المتوسطي إلى العالم

والحقيقة أن هناك عدة وجبات غذائية متوسطية تُجسِّد اليوم النظام الغذائي المتوسطي من أهمها وجبة ” الكسكس” التي أدرجت في ديسمبر-كانون الأول -دجنبر عام 2020 في قائمة التراث العالمي غير المادي بمبادرة من أربعة بلدان مغاربية هي المغرب، وموريتانيا، والجزائر، وتونس. والوجبة في أصلها كانت تقوم أساسا على الحبوب وعلى الخضروات الموسمية وعلى استخدام اللحوم الحمراء او البيضاء أو الأسماك بطريقة ظرفية لا كل يوم. وهذه التركيبية أقرب كثيرا إلى أصول النظام الغذائي المتوسطي مما هي عليه طريقة إعداد الوجبة اليوم في البلدان المغاربية والتي تَفرض فيها اللحوم الحمراء أو البيضاء أو الأسماك نفسها أكثر من اللزوم. ولابد من التذكير هنا بأنه ثمة شبه إجماع تاريخي وعلمي على أن وجبة الكسكس نشأت في بلدان الشمال الإفريقي لدى سكانه الأصليين قبل العهد الروماني وأنها انتقلت شيئا فشيئا في القارة الإفريقية باتجاه بلدان الساحل ووسط القارة وغربها.
وكان كثيرون يرون أن انتشار الكسكس في بلدان المتوسط الشمالية يُعزى بشكل أساسي إلى الفترة التي احتلت خلالها فرنسا البلدان المغاربية وإلى كونه انتقل مثلا إلى إيطاليا من ليبيا خلال الفترة التي أحتل فيها الطليان هذا البلد خلال الشطر الأول من القرن العشرين. وتؤكد دراسات علم السوسيولوجيا التي وُضعت حول موجات الهجرة التي انطلقت خلال القرن الماضي من جنوب المتوسط إلى شماله أن العمال المهاجرين الذين استقدمتهم بلدان الشمال المتوسطي في سبعينات القرن العشرين لعبوا دورا كبيرا مع اليهود المغاربيين الذين لجأوا إلى شمال المتوسط بعد حرب 1967 العربية الإسرائيلية كان لديهم فعلا دور كبير في نقل وجبة ” الكسكس ” أو ” الطعام ” أو ” السكسو” إلى بلدان أوروبا الجنوبية بشكل مكثف وفي جعلها تصبح مع نهاية القرن العشرين جزءا لا يتجزأ من الوجبات الوطنية في هذه البلدان والبلدان المجاورة لها في القارة الأوروبية.
ومع ذلك فالدراسات العلمية الحديثة تؤكد أن دخول هذه الوجبة المتوسطية التي انطلقت في الشمال الإفريقي إلى أوروبا كان قويا منذ القرن الثامن ميلادي أي منذ فتح الأندلس. وإذا كان سكان الشمال الإفريقي يفتخرون اليوم بانتقال وجبتهم الأصلية إلى القارة الأمريكية عبر الإسبان والبرتغاليين، فإن سكان بلدة ” سان فيتو لو كابو” الواقعة في شمال صقلية الغربي يفاخرون بدورهم بكون بلدتهم تنظم أهم مهرجان عالمي سنوي حول الكسكس منذ عام 1998. وصحيح أن وراء تنظيم هذا المهرجان رغبة في الترويج لهذه البلدة السياحية ومحيطها. ومع ذلك فأَكلة الكسكس بالسمك جزء من تراث سكان البلدة ومنطقة ” تراباني ” التي تنتمي إليها منذ قرون طويلة. وقد تجلى من خلال دورات هذا المهرجان العالمي المتتالية أن الوجبة تستأهل فعلا أن توضع في قائمة التراث العالمي لأنها أصبحت جزءا من وجبات شعوب أخرى غير متوسطية. وبرغم الإجراءات المشددة التي اتخذت خلال هذا العام للحد من تنقل الأشخاص من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى بسبب جائحة كورونا، فقد شاركت في دورة المهرجان الأخيرة التي انتظمت من السابع عشر إلى السادس والعشرين من شهر سبتمبر -أيلول- شتنبر الماضي ثمانية بلدان هي المغرب وإيطاليا وإسبانيا ورومانيا والسنغال، وجزيرة موريس، وأفغانستان، والأرجنتين. وفازت طباخة رومانية تسمى ” كلوديا ماريا كاتانا” بأفضل جائزة من جوائز الدورة.
هل تخلى المتوسطيون عن إرثهم الغذائي؟
تخلص كثير من الدراسات المتوسطية حول عادات المتوسط الغذائية إلى أنها تغيرت كثيرا منذ منتصف القرن العشرين على نحو انعكس سلبا على أصول الوجبات الغذائية المتوسطية وعلى صحة المتوسطيين. فهذه الوجبات أصبحت معقدة أكثر مما كانت عليه من قبل. واتخذت فيها منتجات الصناعات الغذائية حيزا ما انفك يتسع. فقد أصبح أصحاب هذه الصناعات حريصين أكثر من قبل على الترويج في المنطقة المتوسطية لأغذية تغري جيوب المستهلكين وأذواقهم، ولكنها تسيئ في كثير من الأحيان إلى خصوصيات النظام الغذائي المتوسطي وإلى صحة المتوسطيين لاسيما عبر المواد الكيميائية التي تُضاف إلى منتجات الصناعات الغذائية. فالكسكسي الأصلي أو البيتزا الأصلية فيهما حيز قليل للمواد التي تحتوي على دهون حيوانية وبخاصة تلك التي نجدها في اللحوم. ولكن اللحوم أصبحت جزءا أساسيا من غالبية الوجبات الرئيسية في العادات الغذائية المتوسطية الجديدة. وكانت للبقول مكانة مهمة في صنع وجبات يقبل عليها سكان المدن والأرياف المتوسطية دون الحاجة إلى إضافة لحوم. فغدت وجبة العدس أو الحمص بلا لحوم ترافقها أو توضع فيها كما لو كانت نشازا في المطبخ المتوسطي.
ومن يعود إلى سياق تناول وجبات المطبخ المتوسطي الاقتصادي والاجتماعي، يتوقف بالضرورة عند خاصية أخرى من خاصيات النظام الغذائي المتوسطي هي الجهود الجسدية المضنية اليومية التي كان يبذلها أغلب المستهلكين المتوسطيين لتَدبُّر شؤونهم مما يجعلهم يحرقون بشكل منتظم السعرات الحرارية الإضافية التي قد يجدون أنفسهم أحيانا مضطرين إلى التزود بها عن قصد أو غير قصد. ولكن شتان بين زمن كان المتوسطيون فيه باستثناء القلة كالدَّوامة التي لا تهدأ وبين الزمن الحالي الذي غدا فيه كثير من المتوسطيين لاسيما في الأوساط الحضرية لا يتحركون إلا لماما لأن الأنشطة التي يتعاطون لا تتطلب حراكا ولأن متوسطيين كثيرين لاسيما في الضفة الجنوبية يقضون وقتا طويلا في المقاهي أو في منازلهم أمام التلفاز أو الكمبيوتر أو التابليت أو أجهزة الهواتف الذكية. وإن عطش الواحد منهم فإنما يأتيه العطش لا بسبب الجهود الجسدية التي يبذلها، بل بفعل المواد السكرية التي يفرط في استهلاكها كل يوم عبر منتجات الصناعات الغذائية وعبر المشروبات الغازية والحلويات التي تُستهلك لدى أسر متوسطية كثيرة ليل نهار والحال أنها في أصول النظام الغذائي المتوسطي. وهذه العوامل كلها بيئة خصبة لتفاقم مشكلة البدانة المفرطة لدى الكبار والصغار والأمراض الأخرى المتصلة بسلوكيات التغذية المتوسطية الجديدة ولاسيما لدى الطبقات غير الموسرة التي تجد نفسها في كثير من الأحيان مضطرة إلى شراء منتجات الصناعات الغذائية المشبعة بالمواد الكيميائية المضافة لأسباب شتى منها أنها في متناول الجيوب شبه الفارغة على عكس ما هي عليه الحال في كثير من الأحيان منتجات الأغذية الطازجة.
وتجدر الإشارة هنا إلى منظمات المجتمع المدني التي تُعنى بالتربية الغذائية في البلدان المتوسطية الشمالية انطلاقا من خصائص النظام الغذائي المتوسطي أصبحت تساعد المعوزين غير القادرين على شراء الفواكه والخضروات الطازجة من السوبرماركت على اقتنائها بطريقة أيسر عبر استغلال ما يمكن وصفه بـ”إحدى حماقات ” موزعي الخضر والغلال الطازجة في مثل هذه المحلات التجارية. فهؤلاء الموزعون يشترطون على المنتجين الزراعيين ألا يزودوهم بكل المنتجات التي لا تخضع لمواصفات معينة لا علاقة لها بالذوق والسلامة الغذائية، بل تتعلق في أغلبها بأشكال هذه المنتجات وبأحجامها. تفطنت منظمات المجتمع المدني إلى هذه الشروط غير المنطقية التي يفرضها الموزعون الكبار على المنتجين المزارعين منذ عقود، فأصبحت تتولى جمعها وتوزيعها مجانا أو بأسعار رمزية على كثير من الأسر الفقيرة وتساهم بذلك في الحد كثيرا من إتلافها ومن إهدار الموارد الطبيعية.
وإذا كان ثمة جسر يمكن أن يعبره المتوسطيون اليوم للبدء في إرساء مصالحة بينهم وبين النظام الغذائي المتوسطي الأصيل، فهو ذلك الذي يساعدهم على التخلص ظاهرة إهدار المواد الطبيعية الأساسية وفي صدارتها تلك التي تُعد بواسطتها الأطعمة. وتتفشى هذه الظاهرة كثيرا لدى متوسطيي اليوم في الشمال والجنوب على حد سواء في المناسبات الخاصة وفي غير مناسبة. ورأي خبراء التغذية المستدامة في المنطقة المتوسطية أن إقامة دورات تدريبية وورش عمل وندوات حول عملية التصالح المنشودة بين المتوسطيين وبين النظام الغذائي المتوسطي ضرورة قصوى اليوم قبل الغد انطلاقا من مشروع ضخم متكامل يهدف إلى وضع أسس العلاقة الجيدة التي يمكن أن يقيمها المتوسطيون في المستقبل مع طعامهم عبر مقاربة أفضل بشأن استخدام المياه والغذاء والطاقة في الوقت ذاته استخداما رشيدا بعيدا عن منطق الهدر والإهدار.

* د. حسان التليلي :  متخصص في مجال البيئة والتنمية المستدامة

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!