مدينة كوفيد

محمد التفراوتي2 سبتمبر 2020آخر تحديث :
مدينة كوفيد

آفاق بيئية  :  إيان غولدين -* روبرت موجاه*

لم تنجُ أي مدينة من الانتشار المميت لكوفيد-19؛ ولكن الفيروس كان له تأثير متفاوت للغاية على مجموعات مختلفة من الناس حتى داخل نفس المدينة. فعندما كانت مدينة نيويورك بؤرة انتشار الوباء على المستوى العالمي، سجل وسط مانهاتن معدل إصابة ناهز 925 لكل 100000 شخص، مقارنة بـ4125 لكل 100000 في كوينز. وسبب هذه الفجوة واضح ومباشر. إذ يمكن لسكان نيويورك الأكثر ثراء الوصول إلى مجموعة واسعة من الخدمات الصحية، والعمل عن بُعد في مبانٍ واسعة متعددة الطوابق.

MUMBAI, INDIA APRIL 8: Arial view of Asia’s largest slum Dharavi during lockdown, on April 8, 2020 in Mumbai, India. (Photo by Pratik Chorge/Hindustan Times via Getty Images)

وكما هو الحال في كل المدن الكبرى، يحدد الرمز البريدي للفرد مصير هذا الأخير إلى حد كبير جدا. إذ لا تتجاوز المسافة بين مانهاتن وكوينز 25 دقيقة على متن مترو الأنفاق، ولكن الفرق بينهما في متوسط الدخل السنوي يبلغ 78000 دولار، وهو رقم يثير الذهول. ويمكن أن يصل التباين بين أحياء المدينة فيما يتعلق بالأجل المتوقع للحياة إلى عشر سنوات. ولا تزال هناك تفاوتات مماثلة في الدخل، والصحة، والتعليم، وفي كل مقياس آخر للرفاهية تقريبًا، في معظم المدن الكبرى عبر العالم. وسيزيد كوفيد-19 من عمق هذه الفوارق.

وفي جميع أنحاء العالم، تكافح الأحياء المكتظة والمهمشة لاحتواء انتشار كوفيد-19 أكثر من المدن التي تعرف كثافة سكانية. إن العوامل الاجتماعية والاقتصادية، هي المحدد الرئيسي لخطر العدوى وليس الجغرافيا الطبيعية، لا سيما في المناطق السكنية في البلدان النامية. فعلى سبيل المثال، تشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف سكان الأحياء الفقيرة في مومباي، والبالغ عددهم سبعة ملايين، مصابون بـكوفيد-19. وفي جنوب أفريقيا، حيث لا يتوفر خمسة ملايين أسرة على براد، بالكاد يتوفر 46٪ من السكان على مراحيض الدفق المائي في منازلهم، ويتشارك ثلثهم المراحيض مع عائلات أخرى- ليس من المستغرب أن ترتفع الإصابات الجديدة على الرغم من إجراءات الإغلاق الصارمة.

وتضر جائحة كوفيد-19، بصورة خاصة، بسكان المدن في الاقتصاد غير الرسمي، حيث معظم الوظائف منخفضة الأجر ولا يمكن أداؤها عن بُعد. إذ في حين أن 47٪ من خريجي الجامعات تمكنوا من العمل عن بعد في الولايات المتحدة في يوليو/تموز، تمكن 4٪ فقط ممن ليس لديهم شهادة الثانوية العامة من القيام بذلك. ورغم أن هذه الديناميكية تؤذي، بلاشك، فقراء المناطق الحضرية في مدن مثل نيويورك، إلا أنها أكثر إرهاقًا بالنسبة لأولئك الموجودين في دكا، على سبيل المثال، حيث يعتمد أكثر من 80٪ من العمال على القطاع غير الرسمي- أفادت لجنة البنغلاديش للنهوض بالريف أن 62٪ من إجمالي دخل الأجور اليومية اختفت أساسا في يونيو/حزيران.

وكما نوضح في كتابنا الجديد Terra Incognita، (الأرض المجهولة)، يؤدي كوفيد-19إلى تفاقم أشكال متعددة من عدم المساواة داخل البلدان والمدن وفيما بينها، ويثير أسئلة أساسية حول مستقبل الحياة الحضرية. وتتحمل المدن الكبرى العبء الأكبر من التكاليف البشرية والاقتصادية للوباء- والأسوأ لم يأت بعد- مما يثير مخاوف بشأن ما إذا كانت ستنجو باعتبارها العقد المركزية للاقتصاد العالمي.

ولكن رغم أن الوباء قد أثر بشدة على العديد من المدن الخارقة، فإن بعض الصناعات التي تقود اقتصاداتها تتمتع بمرونة ملحوظة، مما قد يساعد في تفسير سبب انتعاش أسواق الأسهم العالمية. ومن الواضح بالفعل أن الفائز الأكبر في الأزمة الحالية ستكون شركات التكنولوجيا الفائقة. إذ في نفس اليوم الذي ذكرت فيه تقارير أن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة انخفض بنسبة 32.9٪ (31 يوليو/تموز)، أعلنت أمازون عن أرباح ربع سنوية بلغت 5.2 مليار دولار، مع زيادة المبيعات بنسبة 40٪ عن العام السابق. وكذلك، كان أداء كل من Google(غوغل)، وApple (أبل)، وFacebook (فيسبوك)، أفضل بكثير من أداء الاقتصاد برمته خلال الوباء.

وبناء على تقديرات مؤسسة Citibank(سيتي بنك) التي تقول أنه يمكن أداء 80٪ من الوظائف في الخدمات المالية عن بُعد، يمكن أن يكون أحد الآثار الدائمة لـكوفيد-19 هو القضاء على التنقل بالنسبة للعديد من العاملين في اقتصاد المعرفة، إن لم يكن معظمهم. وفضلا عن ذلك، وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب مؤخرًا، أن ثلاثة من كل خمسة عمال أمريكيين ممن يقومون بوظائف من المنزل أثناء الوباء، يرغبون في مواصلة العمل عن بُعد قدر الإمكان. ووجد استطلاع أجرته مؤسسة بلومبرغ أن 97٪ من المحللين الماليين، و94٪ من مديري الصناديق، و80٪ من المتداولين يخططون للعمل من المنزل في المستقبل، على الأقل لبعض الوقت.

وحتى إذا طُور اللقاح ووزع في وقت مبكر من عام 2021، فإن كوفيد-19 سيدمر المدن إلى حد كبير. ويتوقع نيكولاس بلوم من جامعة ستانفورد أنه إذا فقدت المدن المساحات المكتبية المستخدمة سابقًا من قبل العاملين في مجال المعرفة، فقد تنخفض النفقات الحضرية الإجمالية بمقدار الثلث. وسيكون للانخفاض الكبير في ضرائب الممتلكات، وتدفقات الإيرادات الأخرى تأثيرا كبيرا على قدرة الحكومات البلدية على توفير الخدمات الأساسية. وسيكون لخروج العمال ذوي القيمة العالية تداعيات خطيرة على سكان المدينة– بما في ذلك، النُدُل، والممثلون، والبقَّالة، وتجار التجزئة. ويحدد هؤلاء الأشخاص والخدمات طابع المدن إلى حد كبير، وستؤدي خسارتهم إلى تسريع دوامة التدهور.

ومع ذلك، رغم أن العديد من المدن الكبرى في حالة إغلاق، إلا أنها أبعد من أن تنهار. فقد كان موت المدينة الخارقة متوقعا من قبل، لكن المناطق الحضرية دائما ما كانت تظهر قدرة غير عادية على التعافي من الأزمات، بما في ذلك الجوائح والأوبئة. وحتى في أحلك الظروف، تظل المدن الكبرى والمتوسطة والصغرى أفضل الأماكن للعيش والعمل واللهو، كما أن سكان المدن أكثر صحة وثراءً، في المتوسط، من نظرائهم في المناطق الريفية، ومن غير المرجح أن يتغير هذا، على الرغم من تسارع وتيرة العمل عن بعد.

وستستمر المدن في كونها مواقع للابتكار، والتجريب، والاختراع. ونظرا لكون العديد من البلدان تواجه الآن الموجة الثانية من كوفيد-19 (أو لا تزال عالقة في المرحلة الأولى)، يعيد رؤساء البلديات التفكير في استراتيجياتهم لتحسين القدرة على تحمل التكاليف، وتعزيز النظافة، وضمان سلاسل التوريد المستقرة وإنتاج الطاقة، والحد من الازدحام. ولأن المدن تواجه عجزًا ماليًا هائلاً ومسؤوليات متزايدة، ستحتاج إلى الاعتماد على إبداعها الاستثنائي لتحقيق المزيد من الانجازات بموارد أقل. وبدلاً من أن يكون كوفيد-19 تهديدًا وجوديًا للمدن، قد يؤدي إلى تعمير حضري أكثر تقدمًا وشمولية في بعض مناطق العالم.

وبطريقة أو بأخرى، يعتمد مستقبلنا على المدن. ولهذا السبب ركز المنتدى الاقتصادي العالمي مبادرته الكبرى لإعادة التعيين على المراكز الحضرية، ووضع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، المدن المرنة والشاملة في جوهر تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وبالنسبة لقادة المدن، تتمثل المهمة في البدء في الاستثمار في وسائل نقل تُقل أقل عدد من الركاب، وتحويل الشوارع إلى ممرات خاصة بالراجلين، أثناء اختبار نماذج جديدة للتصميم الحضري، بما في ذلك إعادة تأهيل المباني والأماكن العامة لتستجيب للمعايير الصحية، وتصبح بديلا متجددا. لقد أظهر لنا الوباء أن ضمان صحة السكان يتطلب إعادة تشكيل المجتمع؛ والمدن هي المكان الذي ستبدأ فيه هذه العملية.

*إيان غولدين أستاذ العولمة والتنمية بجامعة أكسفورد والمؤلف المشارك (مع روبرت موجاه) لكتاب Terra Incognita” : 100 Maps to Survive the 100 Years” القادمة.

*روبرت موجاه ، أحد مؤسسي معهد Igarapé ومجموعة SecDev ، وعضو في مجلس المستقبل للمدن التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي ومستشار تقرير المخاطر العالمية. وهو مؤلف مشارك (مع إيان غولدين) لـ Terra Incognita: 100 Maps to Survive the Next 100 Years.

– بروجيكت سنديكيت  / ترجمة: نعيمة أبروش

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!