آفاق بيئية : كمال درويش*
تمثل أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19) اختبارا غير مسبوق للتضامن الإنساني. فهل يتبنى الأثرياء ــ أو كل أولئك الذين يتمتعون بدخل ثابت أو مدخرات احترازية ــ تدابير لدعم الفقراء وغير الآمنين اقتصاديا؟ هل يقدم الشباب، الذين كان معدل الوفيات بينهم هو الأقل حتى الآن، التضحيات لحماية كبار السن؟ وهل يقبل الناس في الدول الغنية تحويل الموارد إلى الدول الفقيرة؟
لن يتمكن العالم من تخفيف تداعيات الجائحة التي أودت بحياة ما يقرب من 38 ألف شخص وأصابت الاقتصاد العالمي بالشلل إلا إذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة بالإيجاب. ومع ذلك، لن تكون النتيجة مضمونة على الإطلاق.
ربما يكون أول أشكال التضامن الذي يجري اختباره الآن ــ عبر فئات الدخل المختلفة ــ هو الأسهل من حيث قدرتنا على تأمينه. لقد أصاب فيروس كورونا 2019 أمثال رئيس وزراء المملكة المتحدة، وولي العهد، ورياضيين محترفين، والعديد من مشاهير هوليود، مما يدل على أنه لا يبالي ما إذا كان ضحاياه أثرياء أو فقراء.
لكن العواقب الاقتصادية المترتبة على تدابير الصحة العامة ــ مثل إغلاق أنشطة الأعمال إلى أجل غير مسمى ــ ستتحملها على نحو غير متناسب المجموعات الأقل أمانا على المستوى الاقتصادي، بما في ذلك أصحاب الدخل المنخفض، والعمال الذي يتقاضون أجورهم عن ساعات العمل الفعلية، وأولئك الذين لا يستطيعون العمل عن بُـعـد. وفي تصميم الاستراتيجيات الكفيلة بالتعويض عن الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الجائحة، يتعين على الحكومات أن تراعي هذه الاختلافات.
حتى الآن، لم يحدث أي شيء من هذا القبيل بالقدر المطلوب. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، تساعد العديد من التدابير، مثل الفوائد المرضية الموسعة، الفئات ذات الدخل المنخفض، لكنها تأخرت طويلا، كما هي الحال في الاقتصادات المتقدمة الأخرى. وربما تكون تدابير أخرى، مثل إرسال شيكات إلى جميع المواطنين وإصدار الأوامر للهيئات الفيدرالية بوقف عمليات الإخلاء وحبس الرهن العقاري، أكثر تبشيرا، لكنها تظل بعيدة عن كونها حماية كافية للفئات المعرضة للخطر اقتصاديا في البلاد.
إن بناء التضامن بين فئات الدخل المختلفة يستلزم وجود قادة قادرين على تعزيز ذلك النوع من الوطنية غير الأنانية التي تسهل التضحية المشتركة في زمن الحرب (بينما ترفض النزعة القومية الضيقة الأفق التي تقوض التضامن الدولي). من المفيد هنا أيضا أن نعلم أن الحجة البغيضة التي تزعم أن دعم الفقراء يقوض حوافز العمل، وهي حجة غير مقنعة على الإطلاق في الأوقات العادية، تفقد كل مصداقيتها أثناء الوباء. وإذا لم ينجح أي شيء آخر، فينبغي للمواطنين والقادة السياسيين أن يضعوا في الاعتبار أن الأفراد من ذوي الدخل المنخفض يشكلون شريحة قيمة من المستهلكين، ومن الناخبين أيضا (في الدول الديمقراطية على الأقل).
الـبُـعـد الثاني الذي يخضع للاختبار اليوم يرتبط بالعلاقة بين الأجيال. في ضوء العواقب الاقتصادية (والاجتماعية) المترتبة على تدابير العزل الذاتي، قد لا يكون من السهل تأمين التعاون الطويل الأمد من قبل الأجيال الأكثر شبابا ــ المعرضين لمضاعفات خطيرة إذا أصابتهم عدوى فيروس كورونا 2019، لكن معدلات الوفاة بينهم أقل.
تستطيع الروابط الأسرية أن تقطع شوطا طويلا نحو إقناعهم بالالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي. ولكن كما أظهرت جهود مكافحة تغير المناخ، فإن هذا النهج مقيد إلى حد كبير ــ على الأقل في الاتجاه المعاكس. فقد أثبتت الأجيال الأكبر سنا اليوم أنها عازفة عن تقديم التضحيات اللازمة لضمان مستقبل أكثر استدامة لأبنائهم وأحفادهم.
ولكن من هذا المنظور، ربما تتيح لنا الجائحة الفرصة لإحراز التقدم. فإذا ظل الشباب مخلصين لتدابير جذرية قصيرة الأمد لاحتواء فاشية مرض فيروس كورونا 2019، فمن المؤكد أن الأجيال الأكبر سنا قادرة على بذل تعهدات متوسطة الأمد في ما يتصل بالعمل المناخي الطموح.
أما اختبار التضامن الثالث في زمن الجائحة فهو الأشد صعوبة على الأطلاق. ففي وقت حيث يطالب القادة السياسيون بمزيد من التضامن داخل بلدانهم، وحيث تعاني الاقتصادات الوطنية من خسائر فادحة، لن يكون من السهل أبدا إقناع الناس بتقديم تحويلات سخية من الموارد للدول النامية التي تشق طريقها بصعوبة شديدة. وبالفعل، قررت بعض الاقتصادات، مثل فرنسا وألمانيا، تقييد أو حظر الصادرات من المعدات الطبية الحرجة.
ولكن إذا كانت الدولة التي يبلغ نصيب الفرد في دخلها 50 ألف دولار ــ وهذا تقريبا المستوى في كندا وألمانيا، وأقل من المستوى في أستراليا، وهولندا، والولايات المتحدة ــ تعاني من انكماش اقتصادي بنحو 10%، فسوف يظل وضعها أفضل بعشر مرات مما كانت عليه الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل حتى قبل الجائحة. وربما على نحو أكثر وضوحا، إذا لم تتمكن الدول الفقيرة من احتواء فاشيات مرض فيروس كورونا 2019، فقد يعود الفيروس إلى الظهور في الدول الغنية التي ظنت أنها نجت منه.
على هذا فإن التضامن مع البلدان النامية مسألة تتعلق بالأخلاق والرؤية البعيدة المدى. والفشل في اجتياز اختبار التضامن هذا من
شأنه أن يخلف جراحا نفسية عميقة في البلدان التي تركت منبوذة بالعراء، مما يمهد السبيل إلى جميع أشكال التطرف والأزمات الجديدة ــ من الجائحات المرضية إلى الصراعات ــ التي من شأنها أن تهدد الجميع.
بينما تعمل البلدان المتقدمة على تنفيذ التدابير اللازمة لمواجهة العواقب الاقتصادية المترتبة على الجائحة، ينبغي لها أن تعمل أيضا مع المؤسسات الدولية لوضع استراتيجيات لمساعدة العالم النامي. وفي حين أن تقديم السيولة الفورية، كما يقترح صندوق النقد الدولي، يمثل خطوة أولى جيدة، فإن تكديس المزيد من الديون ليس حلا مستداما. بل يستلزم الأمر أيضا تقديم المنح أو جولة أخرى من الإعفاء من الديون. ويتعين على المؤسسات الدولية أن تضمن حصول كل البلدان على المعدات الطبية وغير ذلك من أشكال الدعم ــ بما في ذلك الغذاء ــ التي تحتاج إليها.
الحق أن العالم يقترب الآن من اكتشاف ما إذا كانت عقود من العولمة الاقتصادية والمالية لتقودنا إلى فهم أعمق للروابط ــ الاجتماعية، والأخلاقية، والشخصية ــ التي تجمع الناس معا. ولن يتسنى لنا أن نغير نظامنا الهش المبتلى بالصراعات والمبني على خدمة الكفاءة المفرطة والمكاسب القصيرة الأجل، ونستعيض عنه بترتيبات أكثر استدامة تستند إلى التضامن الاقتصادي والدولي وبين الأجيال، إلا إذا اعترفنا بهذه الروابط وبادرنا إلى تعزيزها.
ترجمة: إبراهيم محمد علي
- كمال درويش ، وزير الشؤون الاقتصادية التركي السابق والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) ، وكبير زملاء معهد بروكينغز