الرأسمالية والفرصة الأخيرة

محمد التفراوتي4 سبتمبر 2019Last Update :
الرأسمالية والفرصة الأخيرة

آفاق بيئية : أدير تيرنر*

في عامنا هذا، أصبح الدليل على حدوث الانحباس الحراري الكوكبي، وأن العواقب التي سيخلفها على البشرية قد تكون وخيمة، وربما كارثية، مُقنِعا أكثر من أي وقت مضى. فقد شهدنا درجات حرارة عالمية غير مسبوقة في يونيو/حزيران ويوليو/تموز؛ وموجات حر غير مسبوقة في أستراليا والهند، مع تجاوز الحرارة مستوى خمسين درجة مئوية؛ وحرائق غابات ضخمة في مختلف أنحاء شمال روسيا. وتنبئنا كل هذه الأحداث بأننا لم نعد نملك ترف إهدار الوقت لخفض الانبعاثات الغازية المسببة لظاهرة الانحباس الحراري الكوكبي واحتواء الانحباس الحراري العالمي بحيث لا يتجاوز مستويات يمكن التعامل معها على الأقل.

كانت الاستجابة متمثلة في تزايد الطلب على العمل الجذري. ففي الولايات المتحدة، يزعم أنصار “الصفقة الجديدة الخضراء” أن أميركا ينبغي لها أن تكون اقتصادا خاليا من الكربون بحلول عام 2030. وفي المملكة المتحدة، يطالب نشطاء حركة “تمرد الانقراض” بتحقيق الغاية ذاتها بحلول عام 2025، وقد عملوا على تعطيل وسائل النقل في لندن من خلال أشكال شديدة الفعالية من العصيان المدني. والآن تكتسب الحجة القائلة بأن تجنب التغير المناخي الكارثي يتطلب رفض الرأسمالية المزيد من الأرض.

في مواجهة هذا التيار المتنامي من التطرف، تحث الشركات، ومجموعات الأعمال، وغير ذلك من منظمات المؤسسة، على توخي الحذر واتخاذ المزيد من التدابير المحسوبة. وهم يزعمون أن خفض الانبعاثات الغازية إلى الصِفر بحلول عام 2030 سيكون باهظ التكلفة وسوف يتطلب إحداث تغييرات في مستويات المعيشة لن يتقبلها أغلب الناس. كما يقولون إن التصرفات غير القانونية التي تعطل حياة الآخرين من شأنها أن تقوض الدعم الشعبي اللازم لفرض التدابير اللازمة. وعلى هذا فإن سلوك مسار أكثر يُسرا وتدرجا لخفض الانبعاثات أفضل، وهو كفيل علاوة على ذلك بمنع الكارثة، ومن الممكن أن تخدم أدوات السوق العاملة ضمن النظام الرأسمالي كوسيلة قوية للتغيير.

الواقع أن هذه الحجج المضادة قوية. فالتكاليف اللازمة لتحقيق غاية الاقتصاد الخالي من الكربون تصبح باهظة للغاية إذا حاولنا الوصول إليها في غضون عشر سنوات، وليس ثلاثين عاما. تحتاج معظم أشكال المعدات الرأسمالية بطبيعة الحال للإحلال في غضون ثلاثين عاما، وعلى هذا فإن تكاليف التحول إلى تكنولوجيات جديدة ضمن هذا الإطار الزمني ستكون قليلة نسبيا، في حين يتطلب التحول على مدى عشر سنوات استبعاد الشركات لكميات كبيرة من الأصول القائمة.

وسوف يساهم التقدم التكنولوجي ــ سواء في تصنيع الألواح الشمسية الكهروضوئية، أو البطاريات، أو الوقود الحيوي، أو تصميم الطائرات ــ في تقليص تكاليف خفض الانبعاثات إلى حد كبير عن مستوياتها اليوم في غضون خمسة عشر عاما. كما أن دافع تحقيق الربح يحفز أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية على تنفيذ استثمارات ضخمة في التكنولوجيات الجديدة اللازمة لتحقيق غاية الاقتصاد الخالي من الكربون.

من ناحية أخرى، تشكل آليات السوق اللامركزية مثل تسعير الكربون ضرورة أساسية لدفع التغيير في قطاعات صناعية أساسية، نظرا لتعدد الطرق الممكنة لإزالة الكربون. ولن يكون التخطيط الاشتراكي على نفس القدر من الفعالية: إذ تعيش فنزويلا كارثة بيئية فضلا عن الكارثة الاجتماعية. ولا يخلو الأمر من خطر حقيقي يتمثل في تسبب التحرك السريع بإفراط في تبديد الدعم الشعبي. ففي فرنسا، تسببت الزيادات الضريبية المصممة لجعل سيارات الديزل غير اقتصادية في استفزاز حركة السترات الصفراء، لكنها فُرِضَت في وقت حيث لم تكن السيارات الكهربائية رخيصة بالقدر الكافي ولم تكن بعد قادرة على تحقيق المدى اللازم لجعلها بديلا ناجحا يستفيد منه أولئك الأقل ثراء الذين يعيشون خارج المدن الكبرى.

لكن من الصحيح أيضا أن النظام الرأسمالي فشل في الاستجابة لتحديث تغير المناخ بالسرعة الكافية؛ وفي بعض النواحي، أعاقت الرأسمالية العمل الفعّال. وفي مقابل الاختراقات التكنولوجية البارعة التي تحققت في مجال التمويل الرأسمالي رأينا جماعات الضغط الصناعية التي تسوق الحجج بنجاح ضد الضوابط التنظيمية المطلوبة أو ضرائب الكربون. ولو كنا تبنينا السياسات المناسبة قبل ثلاثين عاما، لكنا الآن على الطريق إلى تحقيق اقتصاد خال من الكربون بتكاليف منخفضة للغاية. ويرجع عدم قيامنا بذلك جزئيا إلى نقيصة تعيب الرأسمالية.

الآن نحن في احتياج إلى العمل المتسارع. ينبغي لكل الاقتصادات المتقدمة أن تلتزم بتحقيق هدف خفض الانبعاثات الكربونية إلى الصِفر بحلول عام 2050. والصِفر يحب أن يعني الصِفر، دون التظاهر بأننا قادرون على لاستمرار في إحراق كميات كبيرة من الوقود الأحفوري في أواخر القرن الحادي والعشرين، مع موازنة ذلك بكميات كبيرة بنفس القدر من المواد الكربونية التي نحتجزها ونخزنها.

ينبغي للاقتصادات النامية أن تحقق هذه الغاية بحلول عام 2060 في أبعد تقدير. فحتى هذا من شأنه أن يجعلنا عُرضة لتغير كبير ولا يمكن تجنبه في المناخ، لكن علوم المناخ تقترح أن هذا سيكون كافيا لتجنب وقوع الكارثة. وعلى حد وصف لجنة تحولات الطاقة في تقريرها الصادر حديثا بعنوان “المهمة الممكنة”، فلا يزال من الممكن تحقيق هذا الهدف بتكلفة اقتصادية منخفضة نسبيا، شريطة أن نتبنى دون تأخير السياسات اللازمة لدفع عجلة التغيير السريع.

من الأهمية بمكان فرض ضرائب الكربون بمستويات عالية بالقدر الكافي، مع الإعلان عن الزيادات المستقبلية مسبقا بفترة كافية، لدفع خطط الاستثمار البعيدة الأمد (لعقود من الزمن) اللازمة لإزالة الكربون عن الصناعات الثقيلة. ويجب استخدام تعريفات الكربون لحماية الصناعة من الضرر الناجم عن الواردات القادمة من بلدان لا تطبق أسعار الكربون المناسبة. ويجب أن تواجه شركات الطيران إما ارتفاعا ثابتا في أسعار الكربون أو ضوابط تنظيمية تلزمها باستخدام نسبة متزايدة من الوقود الخالي من الكربون من مصادر مستدامة بشكل واضح، على أن تصل النسبة إلى 100% قبل عام 2050.

كما يجب أن تكون الأدوات الفظة ولكنها فعّالة ــ مثل حظر المبيعات الجديدة من السيارات التي تستخدم محركات الاحتراق الداخلي اعتبارا من موعد محدد في المستقبل، ولنقل عام 2030 ــ جزءا من مستودع ذخائر السياسات. كما ينبغي للضوابط التنظيمية أن تحظر وضع المواد البلاستيكية في مدافن النفايات وإحراق البلاستيك، على النحو الذي يفرض تطوير نظام متكامل لإعادة تدوير البلاستيك.

كل هذه السياسات ليست معادية للرأسمالية. بل إنها السياسات التي نحتاج إليها لإطلاق العنان لقوة الرأسمالية في حل المشكلة. وبمجرد فرض الأسعار والضوابط التنظيمية الواضحة، فسوف تعمل المنافسة في السوق ودافع الربح على دفع الإبداع، وسوف تعمل الاقتصاديات الكبيرة الحجم والتأثيرات المترتبة على منحنى التعلم على دفع تكاليف التكنولوجيات الخالية من الكربون إلى الانخفاض. وإذا لم نعمل على إطلاق العنان لهذه القوة، فإن هذا يعني فشلنا شبه المؤكد في احتواء تغير المناخ.

يشعر المؤمنون باقتصاد السوق بالفزع إزاء الأصوات المتطرفة التي تزعم أن الرأسمالية لا تتوافق مع العمل المناخي الفعّال. ولكن ما لم يدعم المدافعون عن الرأسمالية التأسيس الفوري لأهداف وسياسات أكثر طموحا لتحقيق هدف خفض الانبعاثات الكربونية إلى الصِفر بحلول منتصف القرن، فلا يجوز لهم أن يندهشوا إذا تصور عدد متزايد من الناس أن الرأسمالية هي المشكلة وليست جزءا من الحل.

*أدير تيرنر ، رئيس لجنة تحولات الطاقة ، وكان رئيس هيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة من 2008 إلى 2012. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “بين الدين والشيطان”.

عن بروجيكت سنديكيت / ترجمة: إبراهيم محمد علي     

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

Breaking News
error: Content is protected !!