كيف نتجنب 40 % من الأمراض ؟ : الصحة من البيئة

محمد التفراوتي17 ديسمبر 2012آخر تحديث :
كيف نتجنب 40 % من الأمراض ؟ : الصحة من البيئة
أكثر من 40 في المئة من الأمراض في العالم يمكن اجتنابها بادارة أفضل للبيئة المحيطة. والتدهور البيئي يأتي بشكل أساسي من أفعال الانسان. ففي كل ساعة ينطلق نحو 4 ملايين طن من ثاني أوكسيد الكربون بحرق الوقود، خصوصاً في المصانع والسيارات. وفي كل ساعة يختفي نحو 20 كيلومتراً مربعاً من غابات المطر. ويقدر علماء أن 6 أنواع من النبات والحيوان تنقرض كل ساعة، وهذا أسرع ألف مرة مـن الوتيرة الطبيعية.
راغدة حداد، رئيسة التحرير التنفيذية لمجلة “البيئة والتنمية” تعرض انعكاسات التدهور البيئي علـى صحة البشر، التي كانت موضوع المؤتمر الدولـي EcoHealth 2008 الذي عقد في ميريدا بالمكسيك.
 
آفاق بيئية : راغدة حداد (ميريدا، المكسيك)
 
”على الشخص المصاب بالزكام أو الانفلونزا ألا يسلّم باليد، لأنه بذلك يخرج على أصول الوعي والنظافة والصحة العامة. كما لا يجوز أن يقترب من محدّثه، لأن الهواء الخارج من رئتيه موبوء، وهذا خطر حتى على إنسان يبعد عنه مسافة متر” (صحيفة إل كولومبيانو).
هذا أحد الاعلانات التي ظهرت في الصحف الكولومبية عامي 1918 و1919 عندما تفشّى ”وباء الانفلونزا الإسبانية” في مدينة ميديين، بالترافق مع ظاهرتي النينيو والنينيا المناخيتين. وهو مثال مبكر للخوف العارم من أحد ”الأمراض المناخية” الأخطر على الصحة العالمية. وقد ساهمت الحملة الاعلانية والتوعوية آنذاك في تعزيز السلوكيات السليمة ورسم الملامح الصحية للحياة، خصوصاً في المدن.
وفي جبال الأنديز قرب بحيرة تيتيكاكا في بوليفيا، كانت الأودية الجبلية عصيّة على مرض الكوليرا، لارتفاعها ما بين 2600 و3600 متر فوق سطح البحر، حيث الصقيع والنظام الايكولوجي لا يسمحان بانتشار ناقلات الأمراض. لكن موجة حر أدت الى تفشي الوباء في المنطقة عام 1998، وما زالت ناقلاته معششة هناك منذ ذلك التاريخ مع التغير الحاصل في الظروف الايكولوجية، علماً أن معدل الحرارة هو اليوم أعلى 0,85 درجة مئوية عما كان خلال الفترة 1960 ـ 1990.
وتعتبر حمى الضنك (dengue) أخطر الأمراض الفيروسية بحسب منظمة الصحة العالمية، التي تقدر حصول ما بين 50 و100 مليون إصابة سنوياً وتعرض نحو 2,5 بليون نسمة حول العالم لخطر العدوى. وهي تنتقل بواسطة البعوض. وفي حالتها الحادة، أي الحمى النزفية، قد تكون الاصابة قاتلة. ومنذ السبعينات عادت هذه الحمى الى الظهور بأشكال وبائية في مناطق أميركية كانت استؤصلت منها، مسببة مخاوف جدية لعدم وجود لقاح. وقد أثبتت الدراسات دور التغير المناخي في تفشي حمى الضنك. وتجرى حالياً في الولايات المتحدة وبلدان أخرى تجارب للتنبؤ باحتمالات تفشّيها والاستعداد لها عن طريق رصد التغيرات المناخية.
ناقلات الأمراض، مثل الفيروسات والبكتيريا، تكون عادة مقيدة بالظروف الموسمية والجغرافية وبالعلاقات الايكولوجية في الطبيعة. ويؤدي تغير المناخ والاخلالات بالأنظمة الايكولوجية، مثل تغيير استعمال الأراضي، الى كسر هذه القيود وانتقال الأمراض وانتشارها بين البشر. مثال على ذلك تفشي الكوليرا وحمى الضنك في حوض الأمازون نتيجة تعرية الغابات، التي قضت على 14 في المئة من مساحتها الأصلية خلال العقود الثلاثة الماضية. وغابة الأمازون هي أكبر غابة استوائية في العالم، تغطي نحو خمسة ملايين كيلومتر مربع وتؤوي نحو ثلث التنوع البيولوجي العالمي. وتعريتها هي نتيجة شق الطرق، وقطع الأشجار، وتوسع تربية المواشي والزراعة الأحادية، والزحف السكاني والعمراني. الى ذلك، تسجل في مجتمعات الأمازون معدلات متزايدة للأمراض التنفسية، خصوصاً بين الأطفال، نتيجة تنشق الهواء المشبع بالدخان والرماد والغبائر الناجمة عن الحرائق.
”بيئات صحية، ناس أصحاء” كان شعار المؤتمر الدولي EcoHealth 2008 حول المقاربات الايكولوجية للصحة البشرية، الذي عقد في مدينة ميريدا في المكسيك من 1 الى 5 كانون الأول (ديسمبر). وعرض خلاله علماء من 82 بلداً نتائج أبحاثهم الميدانية حول تأثيرات التغيرات الاجتماعية والايكولوجية على البيئة العالمية، وبالتالي على صحة البشر. وفي ما يأتي بعض الأبحاث التي تمت مناقشتها.
تمكين النساء في لبنان واليمن
 
النساء في بلدة ببنين العكّارية في شمال لبنان أقل حضوراً من الرجال في الحياة العامة، ولكن لهن دور أكبر في إدارة المياه على المستوى المنزلي. وقد شاركن في مشروع بحثي استهدف تحسين وضع الموارد المائية والمرافق الصحية والحد من الأمراض المنقولة بالمياه، خصوصاً الاسهال. يقول الدكتور ايمان نويهض الذي قاد البحث، وهو عميد كلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت: ”جنّدنا أكثر من 25 امرأة في ببنين كان لهن الفضل في إطلاعنا على تجاربهن والوضع المائي والصحي في البلدة”.
وتفتقر ببنين الى المشاريع التنموية وبعض الخدمات الأساسية. وتبين للباحثين أن 21 في المئة من الأطفال الذين شملتهم الدراسة كانوا يصابون بنوبات متكررة من الاسهال. والأكثر معاناة بينهم هم الذين لم يرضعوا حليب أمهاتهم بشكل واف، والذين يمشون حفاة، ولدى أمهاتهم أفكار خاطئة عن الصحة ويعتقدن أن الاسهال أمر لا مفر منه.
وعرف الباحثون أن بعض النسوة يفضلن استعمال مياه الآبار غير المعالجة، اما بسبب عدم القدرة على الدفع للحصول على مياه الشرب من الشبكة الجديدة، واما لاعتقادهن بأنها جاءت بمبادرة سياسي ما أو عائلات معينة. فاستنتج الباحثون أن الاعتبارات الاجتماعية قد تزيد خطر التعرض للأمراض.
وأظهرت المراقبة الشهرية لنوعية المياه مستويات مرتفعة من التلوث البرازي. فقد بيـنـت تحاليل مياه الشفة في 423 منزلاً في البلدة وجود بكتيريا برازية في 84 في المئة من العينات. وتبعاً لنتائج الدراسة وتوصيات فريق البحث، قامت البلدية بتركيب وحدة لتطهير المياه في أحد الأحياء، وهي بصدد تركيب وحدة أخرى على النبع الأساسي، ووضع استراتيجية لتعزيز الوضع الصحي وترويج السلوكيات الصحية في مجتمع البلدة، خصوصاً لدى النساء، بالمشاركة مع الفريق البحثي الجامعي.
وفي المناطق الريفية، تضيع المعارف التقليدية والتنوع البيولوجي الزراعي تدريجياً. وقد أجريت في لبنان واليمن دراستان لاستقصاء ما إذا كان بامكان النباتات الغذائية المحلية المساعدة في تحسين صحة المجتمعات الفقيرة والمهمشة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على سلامة النظم الايكولوجية.
أقام باحثون ”مطابخ صحية” في أربع قرى لبنانية، لترويج استعمال نباتات برية صالحة للأكل وتدريب النساء على النظافة الصحية وطبخ الوصفات التقليدية. وأثمر أحد هذه المطابخ مشروعاً تجارياً لتأمين الأطعمة في الحفلات والأعياد، تشاركت فيه 25 امرأة انخرطن للمرة الأولى في صنع القرار الاقتصادي لعائلاتهن ومجتمعهن.
وفي اليمن، تحدثت النساء الى فريق المشروع ونقلن اليه معرفتهن بأنواع المحاصيل الزراعية وطرق إعداد الأطعمة التقليدية.
وفي النهاية، قام الفريق بإعداد الوصفات ونشرها في كتيب وتوزيعها في أنحاء المنطقة، لتوسيع نطاق بدائل الأطعمة والتنوع الغذائي للسكان. مفتاح النجاح في هذه المشاريع كان تمكين النساء.
 
جيران السموم
 
يشهد أحد الأحياء الشعبية المكتظة في مدينة كالي الكولومبية نسبة عالية من الولادات المشوّهة. وقد أجرى فريق علمي دراسة لتحديد ما تتعرض له النساء اللواتي هن في سن الانجاب، خصوصاً بين 15 و34 عاماً، في هذا الحي القريب من مكب نفايات المدينة ونهر كوكا. فتبين أنهن يتعرّضن لمستوى كبير من المبيدات والمذيبات وسموم البطاريات، خصوصاً المعادن الثقيلة، وذلك داخل البيت ومن المكب القريب. كما أفادت النساء أنهن يأكلن كميات كبيرة من السمك الذي يصاد من النهر الملوث.
التعرض لأخلاط من المعادن وملوثات أخرى في الهواء زاد الاصابات بسرطان الجهاز التنفسي والوفيات بأمراض القلب والشرايين بين السكان القاطنين في جوار مصهر للنحاس والنيكل في فنلندا. وفي إقليم مولانغو المكسيكي الغني بمناجم المنغنيز، يعاني السكان البالغون اختلالات في القدرة الحركية، كما تظهر نسبة كبيرة من الأولاد صعوبات في النطق والتعلم وضعف ذاكرة. وعزا الباحثون ذلك الى ارتفاع مستوى جزيئات المنغنيز في الهواء.
وفي دراسة حالة لمجموعة من العمال الصحيين في نوفاسكوشيا بكندا، قالوا انهم أصيبوا بتسمم بالمعادن الثقيلة نتيجة تعرضهم لغبار سام خلال ورشة تجديد المستشفى حيث يعملون. وجمعت الدراسة معلومات مفيدة حول الأمراض البيئية والمجتمعات الموبوءة في حالات كهذه. ولكن على رغم معاناة أولئك العمال الصحيين أعراضاً مشتركة، فقد ووجهوا بمقاومة على ثلاث جبهات: عدم الإقرار بوجود التسمم المعدني، وتعارض تشخيصات المرض، وتعارض العلاجات التي وُصفت للشفاء.
وقد ربطت أبحاث حديثة بين مواد التنظيف ومشاكل صحية كالربو والتهابات الجلد وأعراض التسمم واضطراب الغدد الصمّ ونشوء سلالات منيعة من البكتيريا. ومن الحالات الأكثر شيوعاً تنشق ربات البيوت لغازات سامة ناجمة عن خليط الكلور وحمض الهيدروكلوريك.
ممارسات زراعية تنعكس صحياً
النظم الزراعية الخاطئة وغير الصحية أحياناً في الريف المصري تضعف إنتاجية الأرض، وتساهم في انتشار الأمراض وسوء التغذية والفقر. ويوفر تدهور الموارد المائية بؤراً مناسبة لتكاثر البعوض الذي يحمل الملاريا. وقد بيَّن مشروع بحثي في الفيوم أن تحسين وضع الموارد المائية خفض احتمالات الاصابة بالملاريا 135 في المئة. ولاحظ الباحثون أن وجود معظم البيوت على مقربة من مجاري المياه، وتسرب المياه السطحية الى البيوت وحولها، يزيدان احتمالات التماسّ بين الناس والبعوض، ما يزيد خطر الاصابة بالملاريا 55 في المئة. كما أن الفقراء يتعرضون للاصابة أكثر من سواهم بنسبة 89 في المئة.
أما منطقة كفر الدوار الزراعية والصناعية في شمال دلتا النيل، فهي معرّضة للملوثات التي تصيب غالباً المجمعات المائية. وقد بينت دراسة صحية بيئية هناك ارتفاع نسبة إصابات السرطان في التجمعات السكنية القريبة من مجاري المياه، خصوصاً نتيجة تلوثها بالمبيدات الزراعية. ويتعرض السكان لملوثات المياه من خلال الشرب والملامسة والاستنشاق وأكل الأسماك المحلية.
وحدثت ظاهرة مستغربة في بلدة قريبة من مزرعة شمّام (بطيخ أصفر) في كوستاريكا. فمن أصل 50 حالة حمل خلال الفترة 2003 ـ 2005، تم تسجيل 5 ولادات ميتة و4 إسقاطات وولادتين بتشوهات خلقية. واستنتج فريق بحثي أن التعرض للمبيدات هو سبب رئيسي لهذه الحالات. فطوال أربعة أشهر من السنة في موسم الشمام، يتم رش الحقول بالمبيدات كل ليلة تقريباً بواسطة جرارات رشاشة. وهذا لا يلوث الهواء الخارجي فقط، بل الهواء داخل البيوت أيضاً.
المياه عماد الزراعة، وهي ليست متوافرة في كل مكان، خصوصاً في المنطقة العربية. لذا يعتبر حصاد الأمطار أمراً حيوياً. وفي جنوب المغرب، استطاع مشروع ناجح للسدود الصغيرة تعزيز صحة السكان والزراعة والنـظام الايكولوجي. فبفضل توافر المياه، تحسن وضع النظافة الصحية والمنزلية، وارتاحت النساء من عبء اجتياز مسافات طويلة لاحضار الماء الى المنازل، وازدادت محاصيل الزراعة المروية. ودعم المشروع رؤية المجلس الاقليمي لاحياء فكرة السدود الصغيرة كاستراتيجية فعالة لمواجهة الجفاف في المناطق الجبلية والتكيف مع تغير المناخ وتحسين الصحة العامة، على أن تخطط أي سدود جديدة وتبنى وتدار بمشاركة المجتمع المحلي.
أما السدود الكبيرة فكثيراً ما ترافقها مشاكل ايكولوجية واجتماعية وصحية. سد الممرات الثلاثة الكبير في الصين، على سبيل المثال، غيّر الديناميات الاجتماعية البيئية للصحة البشرية وأخل بالتوازن الايكولوجي في حوض نهر يانغتسي. ولئن تكن له مفاعيل ايجابية، مثل النمو الاقتصادي وإنتاج الطاقة المتجددة، فان له انعكاسات سلبية على رفاه الانسان، مثل تغيّر دينامية الأمراض وانتشار مسبباتها، خصوصاً الأمراض الطفيلية والمنقولة. كما أن تغير النظام الايكولوجي النهري زاد مستوى التعرض للسموم وعرّض الموارد المهمة في حوض النهر للخطر. وأدى نقل ملايين السكان وتوطينهم في مناطق أخرى الى تغيير استخدامات الأراضي وأنماط العمل، ما سبب تأثيرات صحية نفسية وعقلية. ويؤكد باحثون على ضرورة إجراء تقييم للأثر الصحي، جنباً الى جنب مع تقييم دقيق ومكثف للأثر البيئي، في مشاريع من هذا القبيل.
داء شاغاس في غواتيمالا ومقالع الحجارة في الهند
داء شاغاس هو التهاب خطير ينتقل من الحيوانات الى البشر عن طريق بقّة ماصة للدم. وهو يمثل في أميركا الجنوبية عبئاً مرضياً أكبر من كل الأمراض الاستوائية الأخرى مجتمعة. إنه التهاب مزمن قد يدوم عقوداً، فيوهن المصاب وربما أدى الى موت مبكر.
في غواتيمالا، تولى فريق من الباحثين استطلاع أوضاع 600 عائلة فقيرة في منطقة جوتيابا التي ابتلتها غزوات متكررة من البق. بحث الفريق عن عوامل تفسر وجود البق حتى بعد عمليات رش متعددة بالمبيدات الحشرية. فوجد أن المنازل المعرضة لخطر كبير تعاني عادة من سوء النظافة الصحية، ووجود أرضيات ترابية، ودواجن حية في الداخل، واختباء البق في شقوق الجدران المبنية بطوب طيني خشن. وتبين أن كثيراً من السكان لا يعلمون أن داء شاغاس ينتقل عن طريق هذه الحشرات.
حدد الباحثون طريقتين للوقاية في المنازل المعرّضة لخطر كبير: إما الاكتفاء برش المبيدات الحشرية كما جرت العادة، وإما اتباع مقاربة إيكولوجية تجمع بين الرش وتنفيذ تحسينات في المنازل وتدابير أخرى تقلل من الخطر. وشارك المجتمع المدني في تحديد الأدوات التي يتوجب استعمالها. وقد خفضت الطريقتان من انتشار البق المصّاص، فأجبر البق على ايجاد مصادر أخرى للغذاء خارج المنازل، حيث يمتص دم الحيوانات على مسافة مأمونة من الناس.
وفي ولاية ماديا براديش الهندية، يعمل كثيرون في المقالع والكسارات. لكن هذا العمل يكتنفه الغبار والضجيج والخطر، ويعاني العمال عادة من أمراض تنفسية ومشاكل في السمع وإصابات. كما تتأثر المجتمعات المجاورة بالغبار والضجيج، فوق ما ابتليت به أصلاً من سوء التغذية المزمن والافتقار الى الخدمات الصحية.
وقد عمل فريق من باحثي الصحة البيئية مع المعنيين لتقييم الأخطار ووضع حلول. فساعدوا في تعزيز قدرة مقدمي الخدمات الصحية على تشخيص الأمراض التنفسية ومراقبتها، مقدمين التدريب والمعدّات. ووافق أصحاب المقالع والكسارات في المنطقة على استعمال تقنية لتخفيف الغبار طوّرها فريق المشروع.
الدراجة تنظف الهواء وتعزز الصحة
جميع الناس معرّضون لتنشق أول أوكسيد الكربون، الناجم أساساً عن الاحتراق غير التام للوقود. لكن مزاولي بعض المهن، مثل شرطة السير وسائقي الحافلات وسيارات الأجرة والباعة المتجولين، هم أكثر تعرضاً لهذا الغاز السام، الذي يخلّ بهيموغلوبين الدم ويعيق تدفق الدم والأوكسيجين في عضلة القلب ويسبب أمراضاً في الشرايين التاجية، فضلاً عن حالات اختناق. كما تبين أن التدخين يزيد خطر الاصابة بهذه الأمراض المهنيّـة.
لقد تبدلت المسببات الرئيسية للمرض والوفاة، خصوصاً في البلدان الصناعية، من أمراض معدية الى أمراض غير معدية. وارتفعت منزلة الأمراض المزمنة في أولويات السلطات، خصوصاً تلك المرتبطة بالبدانة ونوعية الهواء. ويساهم التمدد السكاني في تفاقم هذه الأمراض، خصوصاً بالاتكالية على وسائل النقل، علماً أن 40 في المئة من الرحلات بالسيارة هي لمسافات أقصر من ثلاثة كيلومترات، و25 في المئة هي أقصر من كيلومتر ونصف، يمكن اجتيازها بسهولة مشياً أو على دراجة.
وقد أجرى فريق من الباحثين دراسة في مدينة ماديسون بولاية وسكونسن الأميركية. فتبين لهم أن استبدال السيارة بالدراجة في 20 في المئة من هذه الرحلات القصيرة يخفض الانبعاثات بنسبة 20 في المئة، ويقلل النفقات الصحية الناجمة عن التلوث بالجزيئات والأوزون بملايين الدولارات، ويزيد الفوائد الصحية نتيجة انخفاض الوزن بمعدل أربعة كيلوغرامات في سنة.
واستنتج الباحثون أن ترويج ركوب الدراجات في المدينة، ضمن نظام نقل متنوع ومستدام، يعود بفوائد متعددة على صحة الناس والبيئة.
أخطار في مدابغ الجلود
كل يوم يُدبغ 30 ألف جلد في مدابغ منغوليا باستعمال تكنولوجيات قائمة على الكروم وتركيزات عالية من المواد الكيميائية. وينتج نحو 35 متراً مكعباً من المياه المبتذلة لكل طن من الجلود. وتعتبر المياه المبتذلة من المدابغ من أهم التحديات البيئية والصحية في العاصمة أولانباتار. وهي تعيق قدرة المحطة المركزية لمعالجة مياه الصرف، إذ أنها ليست مؤهلة لاستقبال المياه الصناعية، فتضطر الى تصريف المياه المبتذلة غير المعالجة في نهر تول الذي يعتمد عليه نحو 90 ألف مواطن كمصدر رئيسي لمياه الشفة. وهذا يؤثر في صحة سكان أولانباتار. فمن أصل عشرة آلاف حالة إسهال شديد يتم الابلاغ عنها سنوياً في منغوليا، يحدث 70 في المئة منها في العاصمة، حيث الديزنطاريا هي ثاني أكثر الأمراض انتشاراً.
أفاد كثير من العمال أن الكروم يؤثر في صحتهم، وهم يعانون من أعراض معينة أثناء يوم العمل، منها وخز خفيف في الحنجرة، وحكاك، وطفح جلدي، وسعال، ودمع العينين. ومات عدد من عمال المدابغ نتيجة سرطان الكبد والمعدة. ولا تعرف عائلات العمال شيئاً عن مخاطر التعرض للكروم ومواد كيميائية أخرى، ولا عن تدابير الوقاية.
العمال الذكور هم أكثر تعرضاً للخطر في جميع مراحل الدباغة، خصوصاً أثناء الدبغ والنقع ونزع الصوف وحمل الجلود المدبوغة وتفريغها وتسليمها. كما أن المدابغ المتوسطة والصغيرة محصورة في غرفة أو قاعة واحدة، بحيث أن جميع العمال يتعرضون للكروم والمواد الكيميائية الأخرى. وتتعرض النساء لهذه المواد أثناء تنظيف الغرف وغسل ملابس العمال يدوياً.
ويمكن أن ينتقل الضرر الى أفراد العائلة. فقد قال أولاد إنهم يشمون روائح غريبة من ملابس وشعر وأجسام آبائهم وأمهاتهم، حين يعودون الى المنزل من المدبغة دون أن يستحموا أو يغيروا ملابسهم في موقع العمل.
ويتم استخدام بيانات الدراسة لتعميم استراتيجيات تدخّل تخفض تعرض العمال والمجتمع. فمياه الشرب والزراعة قضية أساسية لأمن منغوليا الاقتصادي. وقد شهد العقد الماضي حصاداً جائراً للمياه، وموجات جفاف، وممارسات بشرية خاطئة خصوصاً في قطاعي المدابغ والمناجم، ما أدى الى اختفاء 683 نهراً و1484 نبعاً و760 بحيرة وبركة، فضلاً عن تلويث 29 نهراً رئيسياً.
 
 القوة غير المنظورة للنساء
”نساء مميزات في ميدان الصحة البيئية” كان عنوان جلسة خاصة في مؤتمر EcoHealth 2008، نظمها المركز الدولي الكندي لأبحاث التنمية IDRC وأدارتها راغدة حداد رئيسة التحرير التنفيذية لمجلة ”البيئة والتنمية”. فتمت محاورة خمس باحثات رياديات كن وراء نجاح مشاريع دعمها المركز في بلدان نامية واستحققن عليها جوائز وطنية وعالمية. وهنّ: كريستينا دياز، من كوبا، التي اكتسبت خبرة واسعة في أبحاث الوقاية من حمى الضنك ونشوء سلالات من البعوض مقاومة للمبيدات. فيجايا لاكشمي، من الهند، طورت جهازاً رخيصاً محمولاً لفحص نوعية الماء، وفلترات مائية رخيصة عمّ استخدامها في الهند، مما ساهم في تخفيض الاعتلالات والوفيات الناجمة عن الأمراض المنقولة بالماء. أيونتوغوس لكاسورين، من منغوليا، أجرت أبحاثاً معمقة على الأخطار الصحية ومعايير السلامة للعمال في مدابغ الجلود، وساهمت في تطوير استراتيجية لتخفيف الأخطار عليهم. ماريا كارلوتا مونروي، من غواتيمالا، أجرت أبحاثاً ميدانية حول مرض شاغاس الذي يودي بحياة 30 ألف شخص كل سنة، وعملت مع سكان قرى موبوءة ودخلت بيوتهم لتتقصى أسباب بقاء المرض على رغم رش المبيدات التي يفترض أن تقضي عليه.
هنا تفاصيل تجربة فذة للريادية الخامسة، دونا ميرغلر من كندا، الأستاذة الفخرية في جامعة كيبيك في مونتريال والباحثة في ميدان مكافحة الأمراض المهنية والبيئية.
في قرية صغيرة على ضفة نهر في قلب الأمازون، احتفظت 26 امرأة بمدوَّنة يومية سجلن فيها بدقة كل ما أكلن خلال سنة. كما امتنعن عن قص شعرهن. وفي نهاية السنة، سلمن مدوَّنات الطعام وخصلاً طويلة من الشعر الى علماء برازيليين وكنديين يدرسون المستويات المرتفعة للزئبق السام في المنطقة. وبعد تحليل نتائج الفحوص، اكتشف الباحثون أمراً محيراً قد تكون له أهمية كبرى: أكل الفواكه أثر في مستويات الزئبق في شعر النساء. فهل يثبت أن الفواكه توفر بعض الحماية من الزئبق السام المتراكم في الأسماك التي يأكلنها؟
تقول عالمة الأحياء دونا ميرغلر، التي درست سموماً مثل الزئبق على مدى 40 سنة: ”ينمو الشعر بمعدل نحو سنتيمتر في الشهر. لذلك قصصنا خصل الشعر الى أجزاء بطول سنتيمتر، وفحصنا العلاقة بين ما أكلته النساء كل شهر ومستويات الزئبق في أجسامهن. ووجدنا أن النساء اللواتي أكلن فواكه أكثر لديهن زئبق أقل، للكمية ذاتها من الأسماك”.
نساء القرية استمتعن بهذا العمل مع الباحثين، اذ ان التجمع في الساعة الرابعة عصر كل يوم في المستوصف الصحي كان حدثاً اجتماعياً. كن يضعن علامات على جدول المواد الغذائية لبيان ما أكلنه خلال الـ24 ساعة الماضية، بما في ذلك أي نوع من الأسماك المحلية الأربعين. وقالت إحداهن: ”هذا العمل يجعلنا ندرك العلاقة بين الطعام الذي نأكله وصحتنا”.
اعتقد الباحثون أولاً أن أصل البلية مئات آلاف المنقبين عن الذهب الذين تدفقوا على المنطقة في سبعينات القرن العشرين. فهم استعملوا الزئبق، الذي يتحد بسهولة مع معادن أخرى، لاستخراج الذهب من رسوبيات نهر تاباخوس. لكن في مقابل كل كيلوغرام من المعدن الأصفر، تطلق العملية في البيئة نحو كيلوغرام من الزئبق الذي يعتبر أحد أكثر المواد الطبيعية سمية.
جاب العلماء النهر في قوارب باتت بمثابة بيوتهم ومختبراتهم الميدانية الموقتة، وهم يفحصون مستويات الزئبق في التربة ورسوبيات النهر ومياهه وأسماكه. وأذهلهم أن مستويات الزئبق كانت ثابتة على طول مجرى النهر، حتى على بعد مئات الكيلومترات من مواقع استخراج الذهب.
هذا الدليل قادهم الى تحديد سبب آخر أكثر مدعاة للقلق: الممارسات الزراعية القائمة على ”القطع والحرق” سببت تعرية واسعة النطاق. ومع تدفق مستوطنين جدد الى المنطقة، تم اجتثاث غابة المطر بوتيرة سريعة لتحويلها الى مراع وأراض زراعية. وجرفت الأمطار الاستوائية الغزيرة التربة السطحية من الأراضي المعرّاة الى الأنهار، فتآكلت ضفافها، وانطلق الزئبق الأرضي على نطاق واسع.
الزئبق في التربة غير مضر عادة، لأن غالبية النباتات لا تستطيع امتصاصه. لكنه يصبح خطراً عندما يدخل النظم المائية. وتحتوي الأتربة الاستوائية على مستويات مرتفعة جداً من الزئبق الطبيعي، وعندما تقطع الغابة يتسرب هذا الزئبق الى النهر. وعندئذ تحوله البكتيريا في الماء الى شكل ”متوافر بيولوجياً” يدخل الى السلسلة الغذائية. وتستهلك الأسماك بعض هذا الزئبق المثيليmethylmercury السام جداً، من خلال أكل العوالق. لكن آكلات اللحوم، أي الأسماك التي تأكل أسماكاً أخرى، هي التي تتلوث أكثر مع انتقال الزئبق اطراداً في السلسلة الغذائية.
التسمم الحاد بالزئبق يتلف الدماغ والجهاز العصبي، وقد يؤدي الى الموت. وفوجئ الباحثون بظهور أعراض مبكرة للتسمم الزئبقي على النساء اللواتي كانت مستويات الزئبق في شعرهن 15 جزءاً في المليون. فهذا المستوى أقل بكثير من 50 جزءاً في المليون الذي تعتبره منظمة الصحة العالمية مأموناً. وهذا دليل على أن الزئبق قد يضر بالصحة حتى في مستوى أدنى من العتبة المتعارف عليها دولياً.
ولدى دراسة المحتوى الزئبقي في الأسماك المحلية، وجد الباحثون أن الأنواع المفترسة كانت أكثر تلوثاً من الأنواع الآكلة للنباتات. واذ انخرط القرويون منذ البداية في البحث عن حلول تحسن صحتهم، أطلقوا في ورشة عمل شعاراً استنبطوه كمجتمع يعتمد على الأسماك: ”كلوا مزيداً من الأسماك التي لا تأكل أسماكاً أخرى”.
كانت النساء العنصر الأساسي في نقل هذه الرسالة الى عائلاتهن والى قرويين آخرين. ووجد الباحثون أن ”قادة الرأي” الحقيقيين في القرية، الذين تتسم وجهات نظرهم بأبلغ الأثر في ما يتعلق بالتدهور الصحي والبيئي، هم غالباً النساء، وليس عمدة القرية أو الكاهن المحلي كما كان متوقعاً. وفي أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه، دعت الباحثة المشاركة في الفريق اليزيت غاسبر هذه القيادة ”القوة غير المنظورة للنساء”.
وفي برنامج جديد، سوف يعمل الباحثون مع المجتمعات المحلية على ضفاف نهر تاباخوس لحل مشكلة الزئبق باعادة التحريج. وذلك بتشجيع زراعة أشجار مفيدة اقتصادياً وفي الوقت نفسه تمنع ارتشاح الزئبق من التربة الى النظام المائي.
البرنامج الجديد يسعى أيضاً الى مكافحة داء شاغاس، وهو مرض موهن ومميت يصيب نحو 18 مليون شخص في أميركا الجنوبية. وينتقل بواسطة حشرة تتكاثر في أشجار النخيل، التي هي من أولى الأشجار التي تنمو بعد تعرية الغابات الاستوائية بواسطة الحرق. وعلى رغم أن لأشجار النخيل فوائد كثيرة، إذ توفر زيت الطهو وخشب التسقيف، فمن الأفضل أن تبقى بعيدة عن المنازل. وهناك أشجار أخرى تعطي ثماراً أو جوزيات أو خشباً لصنع القوارب، ويمكن أن تزرع قرب المنازل.
تقول دونا ميرغلر: ”الفكرة هي إبراز أسباب وجيهة للناس كي لا يدمروا الغابة. ويجب أن يكون ذلك مربحاً من كل الجهات: صحة أفضل، زئبق أقل، داء شاغاس أقل، وثروة أكبر بما لديهم الآن من هذه الأشجار المفيدة”. وثمة خيارات كثيرة من الأشجار المحلية التي يمكن زرعها في هذه المنطقة ذات التنوع البيولوجي الكبير، وإحداها ”الإنغا” التي تحمل ثمرة برزت بشكل لافت في سجلات غذاء النساء المتطوعات”.
المهمة الآن هي اختيار مجموعة من السكان المحليين لنقل هذه الخبرات الى مجتمعات أخرى. وربما وقع الخيار على النساء هنا أيضاً. تقول ميرغلر: ”النساء يتكلمن أكثر من الرجال، وهن قادة الرأي في معظم الشبكات الاجتماعية التي خبرناها في مشاريعنا”.
 
شبكة CoPEH-MENA لتعميم مفهوم ”ايكو صحة”
 
نشطت في السنوات الأخيرة مجموعة باحثين وناشطين في مجال الصحة والبيئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، انخرطت في شبكة CoPEH-MENA التي تهدف الى تأمين ميدان بحثي لتعميم مفهوم الـ”إيكو صحة” (Eco Health) أو ”المنظومة البيئية للصحة البشرية” في المنطقة. وتكمن أهمية هذا المفهوم في قدرته على التصدي لتدني الأحوال الصحية للانسان، الناجم عن التغيرات البيئية كتدهور الموارد وارتفاع معدلات التلوث.
ينطلق هذا المفهوم من ثلاثة أسس: إشراك اختصاصات مختلفة بطريقة تفاعلية (transdisciplinarity)، وإشراك المجتمع المحلي والفئات المستهدفة وأصحاب القرار في النشاط البحثي، والالتزام بمبدأ المساواة بين الناس وحقوق الفئات المستضعفة. وتتطرق الأبحاث الى العديد من المواضيع، منها تلوث المياه، وانتشار الأمراض، وآثار تغيّر المناخ، وكفاءة وسائل النقل العام، وانتشار الضوضاء، وتلوث الغذاء، وتوافر مياه الشرب، وخدمات الصرف الصحي.
وتصدر الشبكة منشورات علمية وتثقيفية حول مفهوم ”إيكو صحة” والأبحاث التي تعتمد هذا المفهوم في المنطقة العربية، الى جانب المشاركة في مؤتمرات علمية عربية وعالمية وإقامة دورات تدريبية لدعم القدرات البحثية والتحليلية بين الباحثين العرب. يمكن الاطلاع على مزيد من المعلومات من خلال الموقع الالكتروني : www.copeh-mena.org
(نشر هذا الموضوع في مجلة “البيئة والتنمية” عدد كانون الثاني / يناير 2009)
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!