العالم القروي ومعيقات التحديث                       

محمد التفراوتي2 أبريل 2019آخر تحديث :
العالم القروي ومعيقات التحديث                       

  آفاق بيئية : محمد بادرة

 لا احد يجادل اليوم في مدى فداحة الأزمة التي يعيشها العالم القروي والتي لا يمكن حصرها في المشاكل البيئية من جفاف وهشاشة وشح الأمطار … ولا في تآكل الأراضي الزراعية بسبب زحف المدن عليها …ولا في عدم وجود موارد مادية كافية أو كفاءات بشرية من شانها أن تدعم عملية التغيير نحو استراتيجيات تنموية مستديمة , كما انه رغم تعبئة الموارد المالية الضخمة التي وضعت رهن إشارة مؤسسات قطاعية فلاحية عمومية وخاصة لانجاز مشاريع فلاحية ضخمة  طموحة تستطيع  إدخال العالم القروي في عصر الحداثة والتكنولوجيا – (المغرب الأخضر)-  إلا أن هذا العالم القروي ما يزال يبحث عن نموذج تنموي حداثي فعال يخرجه من وضع مجتمعي مأزوم إلى نظام مجتمعي سائر نحو النمو والحداثة والتطور .

إن السياسات الحكومية المتتالية والمتوالية أبانت بعد أكثر من خمسين سنة من الأولوية للقطاع ألفلاحي عن هشاشة العالم القروي وتخلفه وهو الذي لا يتوفر على وسائل المقاومة الذاتية للكوارث الطبيعية والسياسية أو العواقب المترتبة عن الأزمات الاقتصادية  :

لقد استفحلت في بوادينا وعالمنا  القروي ظاهرة الفقر والخصاصة لعدم وجود قطاعات إنتاجية نشيطة غير الزراعة والرعي , بالإضافة إلى النتائج الكارثية الناجمة عن سنوات الجفاف والتصحر الطبيعي والتهميش الاجتماعي والثقافي … لكن الفقر الفظيع والشح الوضيع والتصحر الخطير هو المتمثل في التصحر الإداري من سوء التسيير وخلل التدبير , والاستغلال ألإقطاعي والمرض البيروقراطي المركزي – و ألمخزني .

إن التصحر الإداري أو الشح ألتدبيري  يكمن في  هيمنة  نموذج إداري تقليدي  ذو طابع بيروقراطي – متحالف مع نخبة من الأعيان في البوادي فيساهمون في تأزم الوضعية الاجتماعية والاقتصادية  بشكل  كارثي . و هذا ما يمكننا معاينته في معظم البوادي والقرى الجبلية منها أو السهلية , فالقرويون (مقهورون ومبتورو الأطراف في المجتمع الحاضر…ويحس سكان البادية وفي كل سجلات  وجودهم بواقع استغلالهم ,,,) بول باسكون – منشورات دفاتر سياسية  .

 انه رغم مرور أكثر من ستة عقود على  الاستقلال , ورغم بعض التغيرات الشكلية التي ادخلها المستعمر الفرنسي على المجتمع القروي ,ثم تبعتها  مخططات الإصلاح الزراعي من طرف  الحكومات المتعاقبة  ” لصالح ” هذا العالم القروي , إلا انه لم يطرأ أي تحول في الشكل أو في العمق بالمقارنة مع التحولات السوسيو اقتصادية التي مست  المدن و الحواضر , وذلك لسبب بسيط هو أن تاطير السكان القرويين من طرف الإدارة الترابية  أو الإدارة المركزية لم يكن يراعي إلا الحفاظ والاحتفاظ بالنظام المجتمعي التقليدي والإبقاء على الوزن الاجتماعي والسياسي للأعيان ودورهم وعددهم التمثيلي في خلق التوازن مع النخب المدينية الجديدة سواء داخل  المؤسسات التمثيلية المحلية أو الجهوية أو الوطنية . إن هؤلاء السكان القرويون الذين يمثلون نصف عدد سكان المغرب , ( تراجعوا في  السنوات الأخيرة بنسب مئوية ضعيفة  ), لم ولن تسمح الإدارة الترابية – المركزية  باقتطاع هذا المجال من حكمها وتصرفها بل عملت على تحديث شكلي لهذه  البنيات التقليدية (التعاونيات – الجمعيات – …) لكن دون أن يخرج ذلك عن السيطرة أو المراقبة , وهذا ما انتبه إليه عميد السوسيولوجيون المغاربة الراحل بول باسكون حين أشار إلى أن  (القرويون بعد قرنين من الصقل والسحق  لم يعودوا يتوفرون على هيئات عفوية , وحق الاجتماع والتجمع مراقب عندهم بحيث أن ادني تنظيم مشكوك فيه ,,, لا يملك إلا أن يعمل في السر ضد السلطة ..أو أن يعلن ولاءه للقائد والشيخ…) عن بول باسكون – المرجع السابق.

هذه القراءة الباسكونية , أعاد صياغتها الدكتور بنسالم حميش في كتيبه المعنون ‘الغمة المغربية ‘ جاء برؤية مادية تاريخية ذلك انه اعتبر العالم القروي بنية إقطاعية وبالتالي شبه فيودالية ….. إقطاعية لكونها …تولدت عن تفسخ السلطة السياسية حين عرضت الفلاحين إلى استغلال مزدوج متواتر من طرف الحكم المركزي ومن طرف ملاكي الأراضي و الضيعات (وغالبيتهم حضر)في شكل اقتطاعات وخدمات زراعية . بنسالم حميش- في الغمة المغربية – سلسلة شراع – ص49

إن اجهزة الدولة استطاعت أن تفرض هيمنتها على العالم القروي بطرق متعددة منها :

vالتمسك والحفاظ على الهياكل الاجتماعية القديمة للمراقبة (شيوخ – مقدمون – أعيان محليون – رجال السلطة ..) منعا لأي تغيير أو تحرر من مراقبة السلطة.

 إعطاء ميزة خاصة لممثل الدولة والسلطة الترابية على الصعيد المحلي , على أساس أن يكون أفراد هذا المجتمع القروي خاضعين لوصاية مشددة  .   

 تنظيم الهياكل الإدارية المحلية حسب مبدأ اللامركزية , فالجماعات المحلية القروية تفتقر للموارد المالية والكفاءات البشرية المتخصصة في مجال التنمية القروية , مما يجعل هذه الجماعات بمثابة ملحقات إدارية تخضع لوصاية الداخلية أو من طرف ممثليها أو ممثلي الإدارات المركزية .

 الاستحواذ على القرار الإداري في وجود مكونات جديدة من المجتمع القروي (تعاونيات فلاحية  – منظمات جمعوية ,,, – ), وبالتالي فان سلوك الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين يبقى مطبوعا بنظرة جمودية أو انتظار ية, ويتميز بالاتكالية و الحذر وافتقاده الاستقلالية وروح المبادرة  .

 استمرار علاقات الإنتاج ذات الطابع القبلي أو الفيودالي من الناحية الاجتماعية والاقتصادية , ويبدو وكأن النظام الاجتماعي يتعلق بكل ما هو تقليدي وقديم بل إن منطقه الداخلي يجر حتما على الاستقرار والمحافظة والجمود وهذا هو السبب في استمرار حالة التخلف في البادية .

هذا التخلف مس جوانب ومستويات عديدة ويفتقد إلى المقومات الأساسية للنهوض والإقلاع ولقد عرض الأستاذ محمد الناصري في إحدى الندوات المنظمة حول العالم القروي بعضا من هذه العوائق التي تحد من تطور المجتمعات القروية , ومنها على سبيل المثال:

أ‌-  عدم وجود قطاع خاص محلي أو وطني مهيكل من شانه أن يلعب الدور ألطلائعي في التنمية القروية.

ب‌ –    عدم وجود موارد مادية وبشرية من شانها أن تدعم القرار وتساهم في عملية التغيير , فقد استفحلت ظاهرة الفقر في العالم القروي لعدم وجود قطاعات إنتاجية نشيطة غير الفلاحة والرعي , بالإضافة إلى العواقب الناتجة عن سنوات الجفاف والتصحر الطبيعي الذي اصطحبه تصحر بشري حيث آن الطاقات الحيوية أصبحت تغادر القرى بشكل مهول.

ت‌- الاهتمام بالأرض دون الإنسان وذلك عن طريق الاهتمام بالأراضي المسقية  و الإنتاج ألفلاحي للتصدير أما الإنسان القروي فهو خارج اهتمامات السياسات العمومية .

ث‌ –  تفاقم وضعية التهميش في العالم القروي والتي أخذت أبعادا خطيرة في السنوات الأخيرة وذلك لانعدام فرص الشغل والمرافق الإدارية والاجتماعية والثقافية والصحية الضرورية والأمن الغذائي .

ج‌ –  عدم ملائمة الجهاز الإداري القروي مع تطلعات وحاجيات السكان .. فالجماعات القروية لم تساير الأثر التحديثي للامركزية إذ يتم تسييرها كهياكل إدارية تقليدية لم تعرف إلا قليلا من التجديد في مجال التنظيم والتسيير.

3-   إن الجفاف وشح الأمطار ليسا كافيين لتفسير مدى التدهور الذي لحق بمعظم البوادي المغربية لان التقلبات المناخية من العوامل الهيكلية للمناطق الجافة والشبه الجافة وهي ليست تطورا مفاجئا , لذا يجدر بنا أن نطرح السؤال  عن اثر الجفاف على الإنتاج ألفلاحي , هل هو السبب الرئيسي في تأزم الأحوال في بوادينا وقرانا ؟, أم هناك أسباب أخرى عميقة قارة ليس لها صلة بالجفاف ولكن بسوء تدبير هذا الجفاف .

إن المفارقة الغريبة هي كون القطاع الفلاحي  استأثر بالأولوية في التصاميم الخماسية والثلاثية التي تعاقبت على البلاد في الستينيات والسبعينيات , واستأثرت  الاستثمارات الفلاحية على غيرها ,  فكيف إذن ورغم هذا الاستئثار بالميزانيات الاستثمارية العمومية  والمنجزات المحدثة  لم تنعكس ايجابيا على تطور العالم القروي وتحسين ظروف العيش فيه ؟؟؟.

إن التطور الذي لوحظ في الإنتاج الزراعي ولاسيما في المواد الاستهلاكية ألأساسية كالسكر والألبان والحبوب والحوامض والبواكر والمنتجات الحيوانية  إلا أن  هذا النمو لم يكن له انعكاس ايجابي على وضعية الفلاحين ولم يكن له اثر حاسم على مستوى تجهيز البوادي بالضروريات الملحة من ماء وكهرباء وطرق وتجهيزات سوسيو ثقافية , فمن جهة هناك نمو ملحوظ للقطاع الزراعي  ومن جهة أخرى تدهور ظروف عيش السكان في المجال القروي

فما هي الأسباب الكامنة وراء هذه المفارقة العجيبة في بوادينا إذ من المألوف أن يكون هناك في كل التجمعات توازنا بين النمو الاقتصادي وتحسن الأحوال الاجتماعية ولكن في مجتمعنا نجد تطورا مغايرا , ولقد عدد مجموعة من الخبراء والدارسين والمهتمين بالقطاع ألفلاحي , والمتتبعين للشأن القروي بعضا من المعيقات والتحديات التي تعيق التنمية القروية ومن هؤلاء :محمد الناصري – إدريس الكراوي – علي السد جاري ….–  فعرضوا أسبابا لهذا التخلف في بوادينا وقرانا ….ومن ذلك  :

  الاختلال ألمجالي :من حيث توظيف الاستثمارات حيث أن الأراضي المسقية ( تمثل نسبة ضعيفة من حجم مساحات الأراضي الفلاحية الصالحة للزراعة)  ) هي التي تستحوذ على نسبة كبيرة جدا من الاستثمارات والتجهيزات الفلاحية ,وهذا يعني أن الدوائر المسقية تضم تجهيزات هيدرو فلاحية مهمة موجهة للمنفعة الخاصة , وليس لعموم الساكنة القروية  , حيث أن السدود والقنوات واستصلاح الأراضي التي صرفت من اجلها  أموال استثمارية ضخمة كانت نتائجها محدودة بحيث كانت التنمية هيدرو فلاحية محضة  أي  أنها تجهيزات تقنية تخدم قطاع الإنتاج وليس المجال القروي  بكامله وبأبعاده المتعددة الاقتصادية والاجتماعية . و إن هذا الشكل من التنمية لم تكن تنمية سوسيو هيدرو فلاحية  بمدلولها العميق  الذي يدمج في توجهاته أهمية الإنسان في التنمية مع توفير المرافق العمومية  من سكن وماء وكهرباء ومدرسة ومستوصف  .

لذا فارتفاع الإنتاج في هذه المناطق السقوية لم يرافقه باللزوم تحسن في ظروف حياة السكان .

مصير المداخيل و الأرباح المتوفرة من النمو الفلاحي يتحول من البوادي إلى المدن ومن فئة اجتماعية إلى فئة اجتماعية أخرى , حيث أن هذه المداخيل و الأرباح  المحصلة من المنتوجات الفلاحية يتم تحويلها  واستثمارها في القطاع العقاري بالمدن وبالتالي فالفوائد تعود إلى الحواضر أكثر مما ينتفع منها الفلاحون والقرويون , بل هناك فئة من الفلاحين أنفسهم يقومون باستثمار مدخراتهم في المدن المجاورة أو غيرها  لعدم وجود إمكانات الاستثمار في البادية وفي القطاع الفلاحي في مقابل جاذبية المضاربة العقارية في المدن .

 إعطاء الأولوية في العقدين الأخيرين للتجهيزات الحضرية أكثر من التجهيزات القروية وهذا يطرح مشكل نظرية التنمية التي تعتبر أن المدينة هي المحرك الرئيسي للتنمية البشرية , وهذا عكس التجارب التاريخية التي تبين التجانس القائم بين التنمية القروية والتنمية الحضرية , أما أن الدولة تعطي الأهمية للتنمية الحضرية وللتجهيزات الأساسية بالمدن على حساب التنمية القروية فان ذلك يعد من العوائق الأساسية في مسار التنمية .

 عدم قدرة الهياكل المؤطرة للبوادي إدارية كانت  آو منتخبة من خلق أداة فعالة في مجال التنمية فالبوادي كانت دوما مهمة سياسيا لا بوتيرة واليات تطورها نحو رفع الإنتاجية أو تحديث نظام الإنتاج ولكن بضبط سكانها وإخضاعهم لتوجهات مركزية , وهذا يعاكس رغبة و متطلبات ساكنة البوادي , لذا تظل المشاريع التنموية إذا توفرت رهينة بالمبادرة المركزية .

إن عدم صلاحية ومواكبة الجهاز الإداري القروي مع تطلعات وحاجيات السكان جعل الجماعات القروية غير قادرة على مسايرة الأثر التحديثي للامركزية إذ يتم تسييرها كهياكل إدارية تقليدية لا تعرف إلا قليلا من التجديد في مجال التنظيم والتسيير.

إن (نظام التمثيلية في البوادي  يهيمن عليه الأعيان ,  وكيفما كانت الظروف أو الضغوطات  فان الفلاحين يصوتون لصالح الأعيان يضاف إلى ذلك غياب جميع الأحزاب السياسية عن البادية باستثناء أحزاب الأعيان )  بنسالم حميش – المرجع السابق.

انبهار النخب الإدارية والسياسية بالعصرنة والتي أدت إلى اعتبار البوادي كملحقات وحدائق خلفية للمدينة صالحة فقط للاستنزاف (استنزاف الأراضي في المضاربات العقارية أو الإنتاجية خاصة حول المدن التي تنهب أجود الأراضي الزراعية بإدراجها من مدار المدن )

ومن خلال دراسة نشرت في نهاية التسعينيات من طرف مديرية الإحصاء أشارت إلى أن مرسوم الإعفاء الضريبي  لصالح القطاع ألفلاحي قد شجع قسطا من الرأس المال الحضري ومنه الشركات الكبرى على الاستثمار في الفلاحة وفي الأرض محدثا بالتالي نزع الملكية تدريجيا من القرويين

  إهمال ذوي النفوذ من أصول قروية المتواجدين في مناصب عليا  لمساقط رؤوسهم وعدم تكوينهم قوة فاعلة لدعم المجهود التنموي للأرياف بعملهم على بلورة المطالب الاجتماعية للبوادي وصياغتها في نماذج تنموية والعمل على إخراجها إلى حيز الوجود , كما آن الانتخابات التي تجرى في البوادي لم تمكن من بروز قوة بعض هذه الشخصيات القروية سواء التي تعيش في هذه  البوادي  أو خارجها حتى تعمل لصالح تحسين أحوال الساكنة القروية , بل إن هذه الانتخابات  غالبا ما  يترتب عن بعضها  تكوين جماعات متناثرة و متناحرة .

(إن الفلاحين يعتقدون بان لا احد غير الأعيان يستحق تمثيلهم , فالأعيان يعرفون الخبايا , يقدمون القروض ويحلون المشاكل , إنهم يستغلونهم إلا أنهم يحمونهم وهم ممثلون منتخبون لأنه لا أحدا سواهم يستطيع ترشيح نفسه  للانتخابات …وهم معروفون من طرف السلطة  )  بول باسكون – السوسيولوجيا السياسية للمغرب العميق – منشورات دفاتر سياسية –

ولنا أن نلاحظ أن كل عناصر الاستنزاف هذه وغيرها تضافرت جميعها حتى خلقت لدى سواد الفلاحين حالة نفور أو لا مبالاة تجاه كل مشروع تحديثي وكل إصلاح زراعي طموح , وهذا ما يهدد مستقبل بلادنا بصفة عامة لان دون تنمية العالم القروي لا يمكن للتنمية العامة لمجموع التراب الوطني أن تحقق الظروف الحقيقية لإقلاع البلاد الحقيقي نحو التطور والتغيير المنتظرين من طرف السكان .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!